ليلة "سقوط أربيل" على الشاشات.. ما الذي حدث في أمسية الإثنين؟
شفق نيوز- أربيل
تحليل خاص
في أمسية الإثنين من ليالي ديسمبر في أربيل، وبشكل مفاجئ، ورد على هواتف السكان سيل من الرسائل والاتصالات ومقاطع الفيديو القصيرة، مرفقة بتعليقات متوترة تتحدث عن "اشتباكات مسلحة" و"نزوح جماعي" و"انفلات أمني غير مسبوق" في قرية "لاجان" غرب العاصمة الكوردية. خلال ساعات قليلة، بدا المشهد في الفضاء الرقمي كما لو أن أربيل تعيش ليلة سقوطها.
لكن خلف هذا السيل من العناوين المقلقة، كانت الوقائع مختلفة وأكثر تعقيداً مما رسمته بعض المنصات أو الحسابات المجهولة على تطبيقات المراسلة، أقرب إلى حدث موضعي في أطراف الإقليم، لا إلى انهيار أمني شامل في عاصمته.
من "احتجاج" إلى "رواية انهيار"
تعود القصة إلى تجمع بدأ قبل أيام قرب مصفى لاناز على طريق أربيل–كوير، حيث خرج سكان محليون من قرية لاجان مطالبين بوظائف وتعهدات سابقة بتشغيل أبناء المنطقة في المنشأة النفطية. مع تصاعد التوتر بين المحتجين وقوات الأمن، تحولت الوقفة إلى احتكاك، وتحدثت تقارير ميدانية عن مقتل شاب وإصابة آخرين من المتظاهرين وعناصر الأمن في محيط المصفى.
في تلك الأجواء الملبدة، وجدت بعض المنصات الإعلامية المقربة من أحزاب سياسية، إضافة إلى حسابات مجهولة، الفرصة لبناء سردية مختلفة. ما جرى في مساحة محددة ومحدودة تحول فجأة في العناوين إلى "انفجار الوضع الأمني" و"تقدم مسلحين نحو المدينة" وحديث عن "هروب جماعي" و"حافة حرب أهلية" في الإقليم.
ينقل مصدر أمني مطلع في أربيل لوكالة شفق نيوز أن الصورة التي حاولت هذه المنصات تثبيتها كانت أبعد ما تكون عن حجم الحدث على الأرض.
"التحدي الذي تواجهه الأجهزة الأمنية في مثل هذه الحالات ليس ميدانياً فقط، بل يتمثل أيضاً في سيل المعلومات المضللة الذي يحاول تحويل كل حدث موضعي إلى رواية عن سقوط أربيل"، يضيف المصدر.
من بين عشرات المقاطع التي انتشرت في تلك الليلة، برز فيديو قصير يظهر أشخاصاً ملثمين وهم يعتلون موقعاً مرتفعاً قرب منشأة لاناز، يحمل أحدهم قاذف "ار بي جي" ويوجه فوهته في اتجاه المصفى، بينما يسمع صوت في الخلفية يقول باللهجة المحلية: "سنهاجمهم إن تقدموا". بالنسبة لكثيرين في أربيل، كان هذا المشهد الأكثر استفزازاً، إذ قدم صورة عن اقتراب مواجهة مفتوحة مع منشأة طاقة حيوية، لا مجرد احتكاك بين "محتجين" وقوة أمنية.
فعلياً، تُعد قرية لاجان، التابعة لقضاء خبات غرب أربيل، جزءاً من الحزام المتداخل مع المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وإقليم كوردستان، وهي مناطق تشهد توترات بين الحين والآخر بفعل تشابك النفوذ الحزبي والأمني.
عملياً، يمكن قطع المسافة بين مركز أربيل ولاجان بالسيارة في نحو أربعين دقيقة عبر طريق أربيل- موصل، وهو ما يبدد إلى حد ما الانطباع الذي روّجت له بعض العناوين عن أنّ الاشتباكات وقعت "على أبواب أربيل"، لكنه يسلط الضوء في الوقت نفسه على أنّ أي اهتزاز أمني في هذه الحلقة الجغرافية سرعان ما ينعكس نفسياً على سكان العاصمة، حتى لو بقي بعيداً نسبياً عن شوارعها وحدودها الإدارية المباشرة.
"مؤامرة" وأذرع داخلية وخارجية
بعد عودة الهدوء النسبي، خرج مجلس أمن إقليم كوردستان ببيان مطول قال إنه خلاصة التحقيقات الأولية في أحداث لاجان واعترافات معتقلين. المجلس وصف ما جرى بأنه "امتداد لسلسلة مؤامرات تخريبية جرى الإعداد لها مسبقاً" تستهدف استقرار الإقليم، مؤكداً تورط "أذرع تابعة لجهات داخلية وخارجية" في إشعال التوتر.
البيان أشار إلى أن ما حدث في لاجان مرتبط بمحاولة أوسع لضرب منظومة الطاقة في الإقليم، بدءاً من استهداف حقل كورمور للغاز الذي يغذي نسبة كبيرة من الكهرباء، مروراً بمحاولات استهداف مصافي النفط ومحطات التوليد، وانتهاء بالتخطيط لتنفيذ تفجيرات داخل أربيل ودهوك.
كما اتهم المجلس جهات معارضة باستخدام منصات إعلامية وحزبية وقنوات خارجية للتحريض ضد الحكومة والدفع باتجاه إطلاق النار واستدراج رد أمني عنيف يؤدي إلى سقوط ضحايا واستخدامهم وقوداً لحملة سياسية وإعلامية ضد سلطات الإقليم.
وبحسب ما ورد في جزء من الاعترافات التي استند إليها البيان، فإن الأحداث لم تكن وليدة لحظة غضب محلية فقط، بل جاءت بعد تنسيق بين شخصيات عشائرية معارضة لأربيل ومقربة من الاتحاد الوطني الكوردستاني، إضافة إلى صلات مع فصيل شيعي مسلح هو "كتائب سيد الشهداء".
هذا الربط بين المحلي والعابر للمناطق الحزبية والطائفية، يعزز صورة المسرح الذي لا ينحصر في قرية أو قضاء، بل يمتد على طول خطوط النزاع السياسية والجغرافية في العراق.
اللافت أن رواية مجلس الأمن لا تقف عند حدود ما جرى في شوارع لاجان، بل تربط صراحة بين تصعيد الاحتجاج وإظهار السلاح في مقاطع الفيديو وبين فكرة "تجريب" مستوى رد فعل قوات الأمن قرب منشأة نفطية، في سياق أوسع استهدف قبل أيام حقل كورمور ومحطات كهرباء وخطوط نقل الطاقة. وفق هذه الرواية، كان المطلوب إيصال رسالة بأن ضرب منظومة الطاقة في كوردستان لم يعد محصوراً بصواريخ وطائرات مسيرة تأتي من خارج الحدود، بل يمكن أن يتخذ شكل اضطرابات داخلية يجري تغطيتها بعنوان المطالب المعيشية، كما يشير المصدر.
في أحياء أربيل، لم تكن صورة "الانهيار" التي رسمتها بعض العناوين حاضرة بالكامل على الأرض. المقاهي لم تغلق، وحركة المرور بقيت طبيعية مع زيادة في نقاط التفتيش، بينما تحول الحديث في الجلسات العائلية إلى سؤال واحد "ماذا يحدث في لاجان".
بعض العوائل سارعت إلى الاتصال بأقاربها الساكنين في أربيل وضواحيها، وآخرون فتحوا الخرائط على هواتفهم يراجعون المسافة بين القرية والعاصمة. ومع كل مقطع فيديو جديد يصور توتراً ما أو قوافل عربات مصفحة، كان الخيال يكمل بقية القصة أسرع من أي بيان رسمي.
يقول المصدر الأمني إن ما جعل الصورة تبدو أكثر قتامة مما هي عليه، هو أن اللقطات المصورة، خصوصاً تلك التي تظهر إخلاء سكان أو توجيه قذائف نحو لاناز، خرجت من سياقها المكاني والزمني عند تداولها، وتم تقديمها لمتابعين في مدن أخرى على أنها مشاهد لحرب داخلية وشيكة، لا لحادثة موضعية قابلة للاحتواء.
إعلام في قلب الاشتباك ونمط متكرر
جزء من الالتباس جاء أيضاً من طريقة التعامل مع الصحافة على الأرض. منظمات حقوقية وشبكات صحفية تحدثت عن منع فرق إعلامية من الوصول إلى لاجان وخبات، وتكسير معدات بعضها، وهو ما ساهم في توسيع الفجوة بين ما يجري فعلاً على الأرض وما يصل إلى الجمهور. فكلما ضاقت المساحة أمام الصحافة الميدانية، اتسعت مساحة الرواية التي تصنع في غرف التحرير الحزبية أو في حسابات مجهولة على تطبيقات المراسلة.
في المقابل، استند بيان مجلس أمن الإقليم نفسه إلى منظومة إعلامية أخرى، حين اتهم منصات حزبية معارضة ووسائل خارجية بتضخيم الأحداث والتحريض على التصعيد في سياق "حرب نفسية وإعلامية" أوسع ضد الإقليم. بذلك، لم يعد الإعلام مجرد ناقل للوقائع، بل تحول إلى جزء من الاشتباك نفسه وساحة رئيسة لمعركة السرديات.
خلال السنوات الماضية، كلما تعرض الإقليم لهجوم صاروخي أو أزمة رواتب أو توتر سياسي داخلي، ظهرت سريعاً موجة خطاب تتحدث عن "اقتراب نهاية التجربة الكوردية" و"عجز السلطات عن حماية أربيل". الهجوم الأخير على حقل كورمور للغاز الذي أدى إلى انقطاع واسع في الكهرباء، قدم في بعض العناوين بوصفه "ضربة قاضية لبنية الطاقة في الإقليم" رغم أن الإمدادات عادت تدريجياً خلال أيام، وفق بيانات رسمية وتقارير فنية.
في كل مرة، تتحول الأزمة المحلية إلى مدخل لتغذية روايات أوسع، بعضها سياسي داخلي يرتبط بالصراع بين القوى الكوردية، وبعضها إقليمي ودولي يراه خصوم الإقليم فرصة لإظهار هشاشة بنيته الأمنية والاقتصادية.
في هذا السياق، تبدو اعترافات بعض الموقوفين عن تنسيق بين شخصيات عشائرية في هذه الأحزمة ومجاميع حزبية ومسلحة، جزءاً من لوحة أوسع، لا مجرد تفاصيل هامشية. فالمسرح هنا ليس قرية معزولة، بل عقدة جغرافية وسياسية يمكن أن تتحول بسرعة إلى نقطة ضغط على الإقليم من بوابة الأمن والطاقة معاً.
على الضفة الأخرى، بدا رد الفعل الاتحادي أقل من حجم الهواجس التي أثارتها الأحداث في الإقليم، حيث بقيت في إطار عبارات عامة لم تتطور إلى مسارات واضحة لملاحقة شبكات السلاح أو الجهات السياسية التي تتهمها أربيل بالتحريض أو المشاركة غير المباشرة.
في المقابل، حرصت سلطات الإقليم على إبراز أنها هي من تولى الجزء الأثقل من العمل الميداني، بالإعلان عن تفكيك خلية واعتقال عدد من المتهمين على صلة بمحاولات استهداف منشآت الطاقة. هذا التباين بين لهجة حذرة في بغداد وأخرى أكثر حدّة في أربيل يعزز الانطباع بأن ملف الطاقة في كوردستان بات اليوم واحداً من أكثر ملفات الصراع حساسية، وأن كل حادثة تقرأ داخل الإقليم على أنها حلقة جديدة في مسلسل طويل يستهدف التجربة من بوابة الكهرباء والغاز والنفط، لا من بوابة السياسة وحدها.
ليلة لاجان كانت اختباراً جديداً على إدارة الأزمات في زمن السرعة الرقمية. في بضع ساعات، تمكنت مقاطع قصيرة وعناوين صاخبة من رسم صورة مدينة على حافة السقوط، بينما الواقع كان أقل درامية وأكثر قابلية للاحتواء مما ظهر على الشاشات، وإن لم يكن أقل خطورة في دلالاته على هشاشة الحزام المحيط بأربيل وعلى مركزية الطاقة في معادلة الصراع حول مستقبل الإقليم.