مركز بحثي: العراق يواجه انهياراً اقتصادياً يتعدى أزمة الرواتب
شفق نيوز- ترجمة خاصة
يواجه العراق "معركة عميقة" تتعلق بتغيير نموذجه الاقتصادي، من دولة ريعية تمول كل شيء من نفطها، إلى نظام إنتاجي متنوع، وذلك بحسب تقرير لـ"مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية"، الذي اعتبر أن هناك أزمة عقد اجتماعي وطريقة عيش اعتداها العراقيون منذ عقود.
وأشار المركز الذي يتخذ من عمان مقراً له، في تقريره الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، إلى أن "المعركة القادمة في العراق ليست مجرد صعقة مالية عابرة ولا أزمة رواتب قد تحل بقرار استثنائي أو منحة مؤقتة".
وكشف أن "المعركة الأعمق التي لا يريد كثيرون الاعتراف بها هي معركة تغيير نموذج الاقتصاد نفسه، من دولة ريعية تمول كل شيء تقريباً من النفط، إلى دولة منظِّمة وشريكة في اقتصاد إنتاجي متنوع يتحمل فيه المجتمع جزءاً من المسؤولية لا المستفيد من الريع فقط".
وأوضح المركز أن "هذه ليست أزمة أرقام في موازنة، بل أزمة منظور وعقد اجتماعي وطريقة عيش كاملة اعتاد عليها العراقيون منذ عقود".
ولفت التقرير إلى أن العراق يواجه "اقتصاداً يعتمد بشكل شبه كامل على إيرادات النفط، ونمواً سكانياً متسارعاً يزيد الضغط على الوظائف والخدمات، وبنى تحتية منهكة وتعليم وصحة في حالة تراجع مزمن، وتهديداً متزايداً للأمن المائي والغذائي، وبيئة استثمارية طاردة وضعفاً في الثقة الداخلية والخارجية".
ورأى التقرير أن كل هذه العناصر تعني أن الأزمة ليست مجرد عجز في الموازنة، بل هي وصول نموذج "الدولة الراعية لكل شيء" إلى حدوده القصوى.
وتابع التقرير أنه من أجل إدراك حجم التحدي، فإنه يتحتم النظر إلى الواقع من خلال العناصر المترابطة، من خلال أزمة النموذج الريعي بحيث أن الدولة هي صاحبة العمل الأكبر وربما الوحيد، والمواطن ينتظر الراتب، ولا ينتج الثروة، والقطاع الخاص ضعيف ومرتبك، ومحاصر بالروتين والفساد، بينما لا توجد قاعدة إنتاجية حقيقية في الزراعة أو الصناعة أو التكنولوجيا.
وبالإضافة إلى ذلك، قال التقرير إن هناك أزمة حوكمة وإدارة تتجلى في ضعف التخطيط بعيد المدى واستبداله بسياسة "إطفاء الحرائق"، في ظل نظام مؤسساتي متداخل بين المحاصصة والفساد ووضعف المساءلة، وإنفاق عام ضخم، لكن مردوده التنموي ضعيف أو شبه معدوم.
وأضاف أن هناك أزمة ثقافة اقتصادية مجتمعية تتضح من خلال الانتظار الدائم لحلول من جانب الدولة، مقابل غياب مبادرات إنتاجية واسعة، وهناك ثقافة استهلاكية تفضّل الإنفاق الفوري على الاستثمار في المستقبل، إلى جانب مقاومة اجتماعية لأي إصلاح يُفهم فوراً على أنه "انتقاص من الحقوق" ولو كان في الحقيقة حمايةً للحقوق على المدى الطويل.
وبحسب التقرير، فإن هذه العناصر تجعل الأزمة مستمرة ومركبة، لا تنفجر مرة واحدة ثم تنتهي، بل تتسرب إلى كل تفاصيل الحياة، من المدرسة إلى المستشفى، ومن الوظيفة إلى الخدمات الأساسية.
وتناول التقرير خيارين ظاهرين أمام صناع القرار لكنهما في الحقيقة طريقان لمستقبلين متناقضين، أولهما، طريق "إدارة الانهيار ببطء"، من خلال سياسات مثل توسيع التعيين الحكومي كلما زادت الضغوط الشعبية، وزيادة النفقات التشغيلية على حساب الاستثمار، والاستدانة لسد العجز بدلاً من إصلاح جذوره، واللجوء إلى الإصدار النقدي وتمويل العجز عبر التضخم غير المعلن.
ورأى التقرير أن هذا الطريق يعطي إحساساً مؤقتاً بالاستقرار، لكنه في الحقيقة يعني، تآكل القوة الشرائية للمواطن، وتراجع قيمة العملة والثقة بها، والضغط المتزايد على الأجيال القادمة التي ستدفع ثمن الديون والقرارات المؤجلة، واستمرار انهيار التعليم والصحة والبنية التحتية مهما توفرت "رواتب" على المدى القصير.
وأوضح التقرير أن هذا المسار يحافظ على شكل الدولة لكنه يفرغها من جوهرها.
أما الخيار الثاني فهو طريق "إعادة صياغة العقد الاقتصادي"، وهو الطريق الأصعب، إلا أنه الوحيد الذي يمنح العراق فرصة حقيقية لمستقبل مختلف، لكنه مع ذلك يتطلب إعادة هيكلة الإنفاق العام لصالح الاستثمار والبنية التحتية والخدمات الأساسية، وترشيد الرواتب والدعم بطريقة عادلة تحمي الفئات الضعيفة بدلاً من دعم الجميع بغض النظر عن حاجتهم، وإطلاق إصلاح ضريبي حقيقي يربط بين الضريبة والخدمة، ويُشعر المواطن أنه شريك لا عبء، وتحرير وتنظيم القطاع الخاص بدل خنقه بالبيروقراطية والفساد، وبناء منظومة حماية اجتماعية ذكية تستهدف الفقراء والعاطلين عن العمل بشكل منظم ومدروس.
وقال التقرير إن هذا المسار سيكون مكروهاً عند كثيرين في البداية، لأن الإصلاح الحقيقي يعني، تغييراً في عادات الإنفاق، ومواجهة لمصالح متجذرة تستفيد من الفوضى، وصِداماً مع شبكات فساد ترى في أي إصلاح تهديداً مباشراً لها.
إلا أن التقرير أكد أن ثمن الإصلاح اليوم، مهما كان مؤلماً، أقل بكثير من ثمن الانهيار غداً.
وبعدما تساءل التقرير لماذا تهرب الحكومات من الإصلاح برغم أهميته الكبيرة، قال إن الإصلاح يعني خسارة شعبية على المدى القصير، ومواجهة لوبيات وشبكات مصالح قوية، وضرورة اتخاذ قرارات لا يمكن تجميلها إعلامياً بسهولة.
ولهذا، بين أن الحكومات غالباً ما تختار شراء الوقت عبر حلول "مخدّرة"، واستخدام الإعلام لخلق شعور زائف بالطمأنينة، وتخوين أو تسقيط كل من يحذر من الواقع بالأرقام والتحليل.
إلا أن التقرير حذر من أن الزمن في الاقتصاد لا يرحم بحيث أن كل سنة تأجيل، تزيد تكلفة الإصلاح وتُعقد الأزمة، مشيراً إلى أن السؤال لم يعد يتعلق بـ"هل ستحدث أزمة رواتب أم لا"، بل أن السؤال الأهم أصبح "أي نوع من المستقبل نريد؟".
وتابع التقرير تساؤلاته قائلاً هل هو "مستقبل يقوم على اقتصاد ريعي هش، يخضع لتقلبات النفط والقرارات السياسية قصيرة الأمد؟ أم مستقبل يقوم على اقتصاد إنتاجي متنوع، توزع فيه المسؤولية بين الدولة والمجتمع، ويُحمى فيه الفقير، ويُكافأ فيه المنتج، ويُحاسب فيه الفاسد؟".
ورأى التقرير أن المعركة القادمة ليست "حرباً اقتصادية" على المواطن، بل هي حرب على منطق التأجيل، والتخدير، والهروب من الحقيقة.
وخلص إلى أن "الإصلاح الحقيقي لا يبحث عن التصفيق اللحظي، بل عن استدامة حياة كريمة لجيل اليوم وجيل الغد، ومن يرفض الإصلاح اليوم بحجة حماية حقوقه، قد يكتشف بعد سنوات أنه لم يحفظ حقاً، بل أضاع فرصة تاريخية لإنقاذ وطن كامل من انهيار بطيء لكنه مؤكد".