حياة حيدر.. فنانة فيلية نجت من القمع ولم تنجُ من الإهمال

حياة حيدر.. فنانة فيلية نجت من القمع ولم تنجُ من الإهمال
2025-06-14 20:06

شفق نيوز/ لا يزال التاريخ الحديث للعراق شاهداً على سلسلة من الجرائم المنظمة والانتهاكات الممنهجة التي طالت مكونات بعينها دون غيرها، وفي مقدمتها الكورد الفيليون، الذين دُفعوا إلى حواف الهوية، وهم يُهَجَّرون ويُسحَلون ويُقتَلون وتُصادَر ممتلكاتهم دون أن تُسجل عليهم تهمة سوى أنهم "فيليون".

بين هذه السطور القاتمة، تقف الفنانة حياة حيدر كشاهد حيّ، ليس فقط على تهميش جماعي، بل على تدمير فردي طال الأحلام والمواهب والبيوت والقبور.

حين يكون الفن جريمة قومية

في ثمانينيات القرن الماضي، كان كل ما لدى حياة حيدر هو موهبتها في الأداء ومشاركتها في أعمال مسرحية وتلفزيونية ضمن مؤسسات الدولة. لكنها لم تكن بمنأى عن آلة القمع البعثية. ففي الوقت الذي كان زملاؤها من الوسط الفني يتلقون قطع أراضٍ ومكافآت حكومية، كانت هي تُقصى بصمت بسبب انتمائها القومي.

"لم أحصل على قطعة أرض واحدة كما حصل عليها الآخرون.. بل حتى المسجد الذي بناه والدي في مدينة الصدر هُدم، وحُولت أرضه إلى محلات تجارية"، تقول حيدر بأسى، مشيرة إلى أن اسم المسجد كان "حيدر الكرار"، وقد تعرض للهدم ضمن حملة ممنهجة طالت 99 مسجدًا وحسينية.

مصادرة المسجد لم تكن فعلاً مادياً فقط، بل كانت ضربة نفسية قاتلة. فقد تعرض والد حياة لأزمة قلبية عقب ذلك بوقت قصير، وفارق الحياة حزيناً، دون أن تُنصفه دولة أو تُعيد له حقه.

من المسرح العسكري إلى الظل

بدأت حياة حيدر مسيرتها عام 1983 ضمن فرقة المسرح العسكري، وقدمت أعمالًا درامية بارزة، منها "البهلوان" و"من يعطني الشمس" و"راعي البيت". ورغم مسيرتها الفنية الطويلة، الحافلة بالعطاء والتكريمات الرمزية، لم تكن هذه الأعمال كافية لضمان سكن لائق لها. تعيش اليوم في شقة متواضعة مؤجرة، وتدفع أيضًا إيجار شقة شقيقها المريض الذي تعيله بالكامل.

بجانب مسيرتها الفنية، أكملت حيدر دراستها الأكاديمية حتى حصلت على شهادة الدكتوراه، إلا أن الواقع لم يُكافئها، لا كفنانة ولا كأكاديمية، بل بقيت تعيش وسط دوامة المراجعات والطلبات الحكومية دون نتيجة.

عام 1980، ارتكب النظام السابق جريمة موثقة في التاريخ العراقي، حين قام بتهجير أكثر من 350 ألف كوردي فيلي، واختفاء نحو 20 ألفًا منهم في مصير مجهول. وقد اعترف البرلمان العراقي عام 2011 بأن ما حدث يرقى إلى "جرائم إبادة جماعية".

حياة حيدر تؤكد أن عدداً من أفراد عائلتها كانوا ضمن ضحايا هذا التهجير القسري والقتل الجماعي، وأنها عاشت التجربة بكل تفاصيلها المؤلمة، من مصادرة الأملاك إلى فقدان الأحبة، وانتهاءً بالتهميش في ظل النظام الجديد الذي كان من المفترض أن يُنصف أبناء المكونات المظلومة.

"لم نحصل على شيء. لا قطعة أرض، ولا منحة المهجرين، ولا حتى اعتراف رمزي بما قدمناه"، تضيف خلال حديثها لوكالة شفق نيوز.

تؤمن حياة أن الظلم الذي تعرّض له الفيليون لم يتوقف بسقوط النظام السابق، بل استمر بأشكال جديدة: صمت رسمي، تجاهل مؤسسي، غياب أي مشاريع لجبر الضرر أو رد الاعتبار.

ورغم أن زمن الإقصاء الدموي قد ولى، إلا أن التهميش الإداري والبيروقراطي ما يزال قائمًا. وتقول حيدر: "في السابق كان السبب هو القومية والمذهب، أما الآن فالصمت هو سيد الموقف.. لا أحد يعترف بنا أو يسأل عن أحوالنا".

لا تُخفي حياة خيبة أملها من النخب السياسية الفيلية التي لم تقدم ما يكفي لاسترداد حقوق الشريحة، وتحمّل المسؤولية التاريخية تجاه هذه الشريحة التي شكلت جزءًا أصيلًا من الهوية العراقية.

كما تنتقد الواقع الفني الحالي، الذي بات بنظرها خاضعاً للمجاملات والمحسوبيات، ما أدى إلى تغييب الكفاءات وتراجع مستوى الإنتاج الدرامي، وغياب المعايير الفنية في اختيار الأدوار.

"بات المسرح سوقاً للمزايدات وليس ساحة للفكر والجمال"، تقول بأسى.

حياة.. لا تزال تنتظر

وراء هذا الوجه الهادئ والتاريخ الفني الطويل، تختبئ خيبة مريرة وصرخة مكتومة، تطالب بالإنصاف، لا بالتكريم. تقول حياة حيدر إنها لا تطلب المستحيل، بل حق بسيط يُعيد لها شيئًا من العدالة التي حُرمت منها طيلة عقود.

لكن في وطن ما بعد القمع، لا يزال كثير من ضحايا الأمس يعيشون في ظل الإهمال، وكأن شيئًا لم يحدث.

الفنانة حياة حيدر ليست حالة فردية، بل نموذج يتكرر بصمت. والفن، كما الوطن، لا ينهض إذا تُرك فنّانوه يتساقطون على أرصفة الذاكرة المنسية.

00:00
00:00
Shafaq Live
Radio radio icon