هجرة إلى الصحراء.. تجارة الظل في كوردستان تغذي الموت عبر المتوسط

شفق نيوز/ في زوايا سوق قضاء قلعة دزة المزدحم في السليمانية، حيث تتراص محال البقالة والسلع المنزلية، يدير أحمد (اسم مستعار) متجرًا صغيرًا لا يلفت الأنظار، لكن خلف هذا الهدوء الظاهري، يؤدي دورًا حاسمًا في واحدة من أكثر القصص إثارة للقلق في إقليم كوردستان: تهريب الشباب إلى أوروبا.
من خلف رفوف متجره الضيق، لا تبدو على أحمد ملامح منخرط في الجريمة العابرة للحدود، لكن صوته ينخفض كلما تحدّث عن دوره في واحدة من أخطر شبكات تهريب البشر التي تمر عبر كوردستان.
"يأتون إليّ حاملين 15 ألف دولار نقدًا،" قال أحمد لوكالة شفق نيوز، موضحًا أنه يعمل كوسيط موثوق، يحتفظ بالمبلغ حتى يتأكد من وصول الشاب إلى إيطاليا أو بريطانيا. وإذا فشل، يُعاد المال إلى ذويه. "الثقة هي أساس هذه المهنة، حتى وإن كانت غير قانونية."
شهد أحمد، مثل كثيرين في الإقليم، ارتفاعًا حادًا في أعداد الراغبين في الهجرة غير النظامية خلال السنوات الأخيرة، بعد أن قررت تونس منح تأشيرة دخول فورية للعراقيين لمدة 15 يومًا. وفي حين بدا هذا القرار في البداية وكأنه نافذة إنسانية، سرعان ما تحوّل إلى أداة استغلال بيد المهربين.
أوهام العبور عبر تونس
في البداية، بدا القرار التونسي خطوة دبلوماسية لتحسين العلاقات، لكن شبكات التهريب سرعان ما استغلته. في الصيف، امتلأت الرحلات من أربيل إلى تونس بشباب يحملون آمالًا ثقيلة. كان الهدف الوصول إلى مدينة صفاقس الساحلية، ومنها إلى إيطاليا.
"الرحلات كانت محجوزة بالكامل،" يؤكد موظف في مكتب سفر محلي.
لكن على أرض الواقع، كان الطريق مغطى بالفخاخ. في آب أغسطس 2024، اعتقلت السلطات التونسية 16 شابًا من السليمانية في صفاقس، بعد أن تبين أنهم كانوا ينتظرون قارب تهريب.
"قُتل فتى في السادسة عشرة هناك،" يروي أحمد وعينه على الأرض. "عاد جثمانه دون أعضاء، وقصته أرعبت الجميع."
وفي خضم ذلك، انتشرت حكايات مأساوية عن مهاجرين عراقيين لقوا حتفهم أو اختفوا في تونس وسط ظروف غامضة، حتى أوردت التقارير الأممية أن مئات المهاجرين الذين احتجزتهم شرطة السواحل التونسية نُقلوا قسراً إلى مراكز احتجاز ليبية، حيث تعرضوا "للعمل القسري والابتزاز والتعذيب والقتل".
هذه الأحداث الصادمة أدّت إلى إلغاء تونس في نهاية 2024 معظم تسهيلات التأشيرة للوافدين العراقيين وتشديد مراقبة الحدود.
مصطفى 24 عامًا، كان أحد هؤلاء الذين ظنوا أنهم وجدوا المخرج. والده باع جزءًا من أرض العائلة ليموّل الرحلة. عمل مصطفى في مواقع بناء في تونس، بانتظار القارب. ثم اختفى المهرب، وانتهت صلاحية التأشيرة. تم ترحيله. لم يصل إلى أوروبا. لكنه لم يتخلَّ عن الحلم.
"لا عمل هنا، لا فرص، لا مستقبل،" قال مصطفى. "سأحاول مجددًا. ربما من ليبيا هذه المرة."
في عدة قرى من إقليم كوردستان خاصة والعراق عامة، يشتغل كثير من الشبان بأجر زهيد مقابل ساعات عمل طويلة، مما يتركهم مكتوفي الأيدي بلا مستقبل استثماري أو أمل في تحسّن معيشي.
يروي العديد من الشباب قصصًا معبّرة عن هذه الخيبة. فمثلاً، وقع مراسل وكالة شفق نيوز على قصة شاب عشريني من رابرين، جمع أبوه 5 آلاف دولار ليغادر إلى تونس، طمعًا في الحصول على "بطاقة خروج" إلى أوروبا. فجأة اختفى أثره.
لم يتلقّ والده إجابات واضحة؛ وبعد أسابيع من البحث، أبلغوه بأن الشبكة التي سلموه المال قيدت حركته وتلاعبت به في الصحراء التونسية، حيث انتشر خبر اعتداءات عشوائية وخطف أعضاء نحو المهاجرين، دون وجود رقم إحصائي واضح يوثق مصيره.
ليبيا: الطريق الاخطر
مع انغلاق المسارات عبر تركيا التي كانت الممر المفضل صوب أوروبا بعد أن شددت شروط تأشيراتها منذ عام 2023، تحوّل الشباب نحو ليبيا، رغم أن الطرق المؤدية إليها محفوفة بالمخاطر. لا توجد رحلات مباشرة، بل يسلكون طرقًا غير رسمية عبر مصر، ومنها إلى ليبيا، حيث تسيطر الميليشيات المحلية على معظم طرق التهريب.
"المهاجرون يُنقلون سرًا بين المدن الليبية، أحيانًا تحت إطلاق نار،" يقول أحمد. "ثم يُوضعون في قوارب صيد مكتظة لعبور البحر الأبيض المتوسط."
تبلغ تكلفة الرحلة حوالي 1800 دولار للوصول إلى ليبيا، و15 ألف دولار إضافية للعبور إلى إيطاليا. ويؤكد أحمد أن هناك مهربين معروفين في قصبة زاراوة التابعة للسليمانية ينسقون مباشرة مع فصائل مسلحة داخل ليبيا.
التحول نحو ليبيا وتونس جاء بعد أن أصبحت تركيا طريقًا مسدودًا. فبحسب شهادات، رُحّل المئات من أبناء رانية وقلعة دزة بعد ضبطهم وهم يحاولون عبور الحدود التركية أو الأنهار.
"ما دام هناك يأس، سيبقى هناك من يستغله"، يقول أحمد.
مآسي البحر الأبيض المتوسط
وفقًا للمنظمة الدولية للهجرة، توفي أو فُقد أكثر من 31,700 شخص في البحر الأبيض المتوسط خلال العقد الماضي، مع وقوع أكثر من ثلاثة أرباع هذه الوفيات في المنطقة الوسطى من البحر بين شمال أفريقيا وإيطاليا ومالطا، مما يجعلها الطريق الأكثر دموية للهجرة في العالم.
في عام 2024 وحده، لقي أكثر من 3,150 مهاجرًا حتفهم أو فُقدوا في البحر الأبيض المتوسط.
في حزيران يونيو 2024، غرق قارب يقل مهاجرين قبالة سواحل كالابريا في جنوب إيطاليا، مما أسفر عن وفاة ما لا يقل عن 34 شخصًا وفقدان العشرات. وكان القارب قد انطلق من تركيا وكان على متنه غالبية من الكورد من العراق وإيران بالإضافة إلى عائلات أفغانية.
في آيار مايو 2025، رجحت منصة "هاتف الإنذار" وفاة قرابة 50 مهاجرًا قرب سواحل تونس بعد نجاة اثنين فقط من قارب منكوب. اندلع حريق في المركب الذي كان قد انطلق من سواحل ليبيا، مما دفع جميع المهاجرين إلى القفز في البحر.
في حادثة أخرى، يُعتقد أن أكثر من 90 مهاجرًا مفقودون بعد غرق قاربهم قبالة ساحل غرب ليبيا. تم إنقاذ عدد قليل فقط من الركاب، بينما لا يزال الباقون في عداد المفقودين.
هذه الأحداث المعلنة فقط، دعت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى اتخاذ خطوات واضحة للالتزام بالقوانين الأوروبية والدولية لحقوق الإنسان بإعطاء الأولوية لإنقاذ الأرواح في البحر، بما فيها تبادل المعلومات عن القوارب التي تواجه مخاطر مع السفن الإنسانية غير الحكومية القريبة.
وبينما تتضافر العوامل المحلية، يشكل الموقف الدولي عاملًا مضافًا. دخلت تونس وليبيا والاتحاد الأوروبي في سلسلة من التفاهمات الهادفة إلى حصر تدفقات المهاجرين قسريًا؛ ما جعل بعض العراقيين "رهائن عملية سياسية أكبر" بحسب خبراء مهاجرات.
وتشير تقديرات مركز سميت الدولي إلى أن عدد العراقيين الذين غادروا بلادهم منذ 2015 تجاوز 750 ألف شخص والمحصلة أن كثيرين يضطرون للمجازفة لحياة أبنائهم في البحر والبر بحثًا عن فرصة.
شبكة دولية
وفي تطور بارز، أعلنت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في بريطانيا (NCA) في كانون الثاني يناير 2025 أن السلطات في إقليم كوردستان ألقت القبض على ثلاثة أشخاص من السليمانية، بتهمة الانتماء إلى شبكة تهريب عالمية متورطة في نقل المهاجرين إلى المملكة المتحدة وأوروبا.
هذه الاعتقالات جاءت ضمن عملية دولية استهدفت شبكة يديرها أمانج حسن زادة، وهو مهرب يقيم في بريطانيا، حُكم عليه بالسجن 17 عامًا العام الماضي لتسهيله عبور مهاجرين باستخدام قوارب صغيرة.
وكان من بين المعتقلين رجل يبلغ من العمر 38 عامًا متهمًا بتنسيق الرحلات إلى اليونان وإيطاليا باستخدام أكثر من 12 يختًا، بينما اتُهم الثاني، وهو مصرفي في الأربعينيات من عمره، بإدارة الحوالات المالية لصالح الشبكة. أما الثالث، وهو في الثلاثينيات، فقد اتُهم بتجميع المهاجرين محليًا وإيصالهم إلى المهربين.
وتشير الوكالة البريطانية إلى أن كل قارب كان يحمل ما بين 60 و70 شخصًا، يتم نقلهم لاحقًا إلى شمال أوروبا.
وكان زادة، وهو إيراني من بريستون، قد أُدين بثلاث تهم تتعلق بتسهيل الهجرة غير الشرعية، وظهر في مقطع مصوّر عام 2021 في حفلة بكوردستان يُحتفى فيه به كمهرّب "ناجح".
يرى باحثون في الهجرة الدولية أن ما يحدث في كوردستان أو العراق عامة ليس حالة معزولة. إنه جزء من مشهد أوسع في الشرق الأوسط، حيث يُدفع الشباب نحو الحدود بسبب الانهيار الاقتصادي، وفقدان الأمل، وانسداد الآفاق السياسية.
"نحن لا نطلب المستحيل،" يقول مصطفى. "نطلب فقط بداية."