ما بين بغداد وكوردستان وواقع الحشد والشرع.. موسكو تتحدث عن شرق أوسط مترنح
شفق نيوز- بغداد
في قلب عاصفة التحولات الجيوسياسية التي تضرب الشرق الأوسط، يطلّ صوت موسكو في بغداد بلهجة تجمع بين الثقة والواقعية. فمن بيت صغير بمنطقة المنصور يتحدث السفير الروسي إلبرس كوتراشيف إلى وكالة شفق نيوز عن خريطة جديدة تتشكّل في المنطقة، وعن العراق الذي يحاول، بخيوط دقيقة، أن يوازن بين العواصم الكبرى دون أن يفقد استقلاله.
السفير الذي يتحدث ببرود دبلوماسي محسوب يخفي وراءه رسائل مباشرة، في ملفات شائكة، العلاقة مع واشنطن وطهران، مصير الحشد الشعبي، مستقبل النظام العراقي، وموقع كوردستان في الاستراتيجية الروسية، وصولًا إلى الملف السوري وعودة موسكو إلى الساحة بعد عقود من الانكفاء.
في هذا الحوار الخاص، يكشف كوتراشيف عن كواليس التعاون بين موسكو وبغداد، وعن أسرار ملف الغاز والانسحاب الأميركي، ويتحدث بصراحة عن "الأسد في موسكو" و"الشرع في دمشق"، في مشهد يعيد رسم موازين القوى في المنطقة.
ويقول السفير إن الشراكة بين موسكو وبغداد تسير "بخطى ثابتة" وتشمل الاقتصاد والدفاع والطاقة والثقافة والتعليم.
ويضيف أن هناك "رغبة مشتركة لدى مؤسسات القطاعين العام والخاص في البلدين لتطوير التعاون عبر مشاريع عملية تُنفّذ بهدوء"، رافضاً الإسهاب فيها.
ورغم أن القمة الثنائية بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني تأجلت، فإن "الآليات المؤسسية للتعاون قائمة وتعمل بانتظام"، وفق تعبيره.
بغداد بين واشنطن وطهران.. وموسكو تراقب
يؤكد كوتراشيف أن بلاده لا تُعد طرفًا في معادلة التوازن التي ينتهجها العراق بين الولايات المتحدة وإيران: "الصراع بين واشنطن وطهران أحيانًا يُدار على الأرض العراقية، وعلى حساب استقرارها، أما موسكو فليست جزءًا منه".
ويضيف أن موسكو "تؤيد سياسة الحكومة العراقية الهادفة إلى تنويع الشراكات وعدم الارتهان لأي محور".
كما يشير إلى أن العراق "واجه ضغوطًا غربية مكثفة منذ 2022 لقطع علاقاته معنا بسبب الحرب في أوكرانيا، لكنه صمد ونجح في الحفاظ على استقلال قراره"، معتبرًا أن ذلك "من مظاهر نضوج السياسة العراقية".
في ملف الفصائل المسلحة، يقول إن بلاده تفضّل البقاء على الحياد: "وجود هذه الفصائل شأن داخلي لا يحق لأي دولة التدخل فيه، كما أن روسيا لا تتخذ موقفًا رسميًا إلا إذا ورد طلب مباشر من الحكومة العراقية".
ويرى السفير أن "الحشد الشعبي جزء من مؤسسات الدولة، تأسس في ظروف استثنائية، وتأجيل قانون الحشد تحت ضغط خارجي أمر مؤسف"، مشددًا على أن موسكو "ترفض التدخل في القضايا السيادية لأي دولة".
وعلى الضفة الأخرى، يقدّم السفير الروسي قراءة خاصة للنظام العراقي القائم، معتبرًا أنه نتاجٌ لمرحلة استثنائية لا يمكن الحكم عليها بمعايير طبيعية.
ويقول إن روسيا نفسها مرت بظروف مشابهة، "فنحن أقررنا دستورنا بعد أحداث 1993 الدامية في موسكو حين قُصف البرلمان بالدبابات، وما زلنا نجري تعديلات على نظامنا حتى اليوم".
ويضيف: "النظام العراقي، تشكّل في ظل احتلال أجنبي وظروف أمنية خطيرة، لكنه تطوّر، وإذا قارنا حال العراق اليوم بما كان عليه قبل عشرين عامًا، فالوضع بلا شك أفضل".
السلاح والاستثمار الروسي
في الملف العسكري، يوضح السفير أن موسكو "مستمرة في تعاونها مع العراق رغم قانون كاتسا والضغوط الأمريكية".
ويقول إن "روسيا تمنح العراق ما يحتاجه من سلاح دفاعي بخلاف واشنطن التي تفرض قيودًا سياسية على نوعية التسليح".
ويضيف أن المشكلة ليست مالية، "بل في التدخلات الأجنبية التي تمنع العراق من امتلاك منظومة دفاع جوي قوية"، مؤكدًا أن "العراقيين يفضلون السلاح الروسي لأنه أكثر فاعلية وأقل كلفة".
كما يؤكد كوتراشيف أن حجم الاستثمارات الروسية في العراق تجاوز 20 مليار دولار، وأن الأشهر المقبلة "ستشهد توقيع عقود إضافية لزيادة الإنتاج وتحسين كفاءة القطاع النفطي".
ويشير إلى أن التعاون لا يقتصر على النفط، بل يمتد إلى التعليم والثقافة والطاقة والبنية التحتية.
حول اعتراض واشنطن على مشروع نقل الغاز من كازاخستان إلى العراق والتعاون مع إيران، يقول السفير إن "هذه السياسة تعكس نهجًا أمريكيًا ضد طهران يضر بالعراق أيضًا".
ويؤكد أن "العقوبات المشروعة الوحيدة هي التي يصدرها مجلس الأمن، أما العقوبات الأمريكية فهي أحادية وغير قانونية"، مشددًا على أن "من حق العراق أن يطوّر علاقاته الاقتصادية مع من يشاء".
كوردستان.. من جمهورية مهاباد إلى شراكة القرن 21
يروي كوتراشيف قصة العلاقة الروسية- الكوردية منذ لجوء المقاتلين الكورد بقيادة الزعيم الكوردي ملا مصطفى بارزاني إلى الاتحاد السوفيتي بعد سقوط جمهورية مهاباد عام 1946.
"استقبلنا أكثر من 500 مقاتل كوردي، عاشوا لدينا عشر سنوات، وتعلّم كثير منهم في مدارسنا، وتزوّجوا روسيات قبل عودتهم إلى وطنهم"، يقول السفير، معتبرًا أن تلك التجربة "تشكّل رمزًا للعلاقة التاريخية بين الروس والكورد".
ويضيف أن موسكو "تعتبر كوردستان جزءًا من العراق، وكل أنشطتنا هناك تتم بموافقة بغداد"، لكنه يشير في الوقت ذاته إلى أن الإقليم "يُعد شريكًا اقتصاديًا مهمًا وبوابة للتعاون الإقليمي".
وتبلغ قيمة المشاريع الروسية في الإقليم "نحو ملياري دولار قابلة للزيادة"، وتؤكد موسكو أنها "ترحب بتطوير غاز كوردستان وتصديره إلى أوروبا، ولا ترى فيه أي تهديد لمصالحها".
الوجود الأمريكي في العراق.. انسحاب أم إعادة تموضع؟
يرى السفير الروسي أن "ما يجري ليس انسحابًا أمريكيًا كاملًا بل إعادة انتشار".
ويقول: "جزء من القوات والمعدات يُنقل إلى كوردستان، وهذا لا يعني نهاية الوجود الأمريكي في العراق".
ويضيف أن "واشنطن لا تنوي التخلي عن نفوذها في الشرق الأوسط، ووجودها في سوريا يعتمد على قواعدها في العراق نظرًا إلى غياب ممرات لوجستية أخرى".
ويختم قائلاً: "حتى لو انسحب الأمريكيون من الجنوب، فسيبقون في الشمال لضمان التواصل مع قواعدهم في سوريا والخليج".
ويتطرق السفير كوتراشيف إلى ملف العراقيين المشاركين إلى جانب الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية، ويرى أن ما يُتداول بشأن "مئات أو آلاف المقاتلين الأجانب" الذين يقاتلون إلى جانب الجيش الروسي مبالغ فيه بشدة.
ويشير إلى أن عدد المقاتلين الروس في الجبهة يبلغ نحو 600 ألف، وأن الحرب "شعبية الطابع" يشارك فيها الروس أنفسهم من مختلف المناطق.
كما يوضح السفير الروسي أنه تم تسجيل حالات محدودة لعراقيين قاتلوا ضمن صفوف الجيش الروسي، مشيراً إلى أن أحدهم زار الملحق العسكري السابق في السفارة أثناء عودته إلى العراق لتسوية بعض الأمور الشخصية، قبل أن يؤكد نيته العودة إلى الجبهة، كما أضاف أن السفارة منحت تأشيرات دخول لذوي اثنين من العراقيين الذين لقوا حتفهم في الحرب، وهي الحالات الوحيدة التي تم التعامل معها رسمياً.
لكنه يؤكد أنه "مع بداية الحرب تلقّت السفارة عشرات الطلبات من عراقيين يرغبون بالانضمام إلى الجيش الروسي، لكنها اعتذرت عن قبولها لعدم وجود نظام يسمح بتجنيد الأجانب آنذاك. ومع مرور الوقت، تم استحداث آلية رسمية محدودة ومعقدة للغاية، تتطلب ترشيح المقاتل من جهة معتمدة، ثم موافقة وزارة الدفاع الروسية عليه، ما يجعل انضمام الأجانب أمراً شبه مستحيل".
ويوضح أن بلاده لا تحتاج إلى مقاتلين أجانب لأن النظام العسكري الروسي "يوفر حوافز كافية للمتطوعين الروس"، تتضمن رواتب مرتفعة وتعويضات وامتيازات اجتماعية، مضيفاً: "لو كان الباب مفتوحاً فعلاً، لذهب آلاف العراقيين، لكن روسيا تكتفي بمواطنيها."
وفي المقابل، يقول إن الجيش الأوكراني يضم "أعداداً كبيرة من الأجانب" بينهم ضباط وخبراء من دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، قُتل أو أُسر بعضهم في القتال.
روسيا ليست الاتحاد السوفيتي.. و"الشرق الأوسط الجديدة فكرة أميركية"
ويرى السفير أن المقارنة بين روسيا اليوم والاتحاد السوفيتي "ليست منصفة"، بخاصة فيما يرتبط بالعلاقة العراقية، أو مع المنطقة ككل، موضحًا أن "العالم تغيّر جذريًا، والصين أصبحت قوة اقتصادية أولى، ولم تعد موسكو وحدها في مواجهة واشنطن كما في السبعينيات".
ويقول: "قد لا نملك القدرات الاقتصادية التي امتلكها الاتحاد السوفيتي، لكننا نحافظ على النهج ذاته في دعم الأصدقاء والشركاء العرب، بلا أجندات سياسية".
وفي منعطف أخر يصف كوتراشيف فكرة "الشرق الأوسط الجديد" بأنها "نتاج رؤية أميركية فاشلة".
ويقول إن "هذه المشروعات أحادية الجانب لا تعبّر عن مصالح شعوب المنطقة، بل تخدم قوى من خارجها، كما أن نتائج ما يُعرف بـ "الربيع العربي" كانت "كارثية"، مشيرًا إلى أن "ثلث الدول العربية يعيش اليوم أزمات داخلية أو حروبًا أهلية".
ويتابع: "نحن لا ندعو لعودة الأنظمة السابقة، لكن الواقع الجديد أسوأ بكثير مما كان عليه الشرق القديم".
سوريا بعد الأسد.. بين الشرع وموسكو
في الجزء الأخير من حديثه، تناول كوتراشيف التغير السياسي في سوريا بعد وصول أحمد الشرع إلى الرئاسة، مؤكدًا أن "علاقة موسكو مع الحكومة الجديدة لا ترتبط بملف بشار الأسد".
وأوضح أن الأسد "يقيم في موسكو بصفة لاجئ إنساني لا سياسي، وبالتالي لا يحق له ممارسة أي نشاط سياسي أو إعلامي"، مضيفًا أن "روسيا لن تسلمه لأي جهة لأن ذلك يتعارض مع التقاليد الإنسانية".
ويقول إن موسكو "قدّمت تفسيرًا للحكومة السورية الجديدة بأن طلب تسليمه لا يخدم مصالحها، وقد اقتنعت بذلك"، مشيرًا إلى أن العلاقات بين البلدين "تسير نحو مرحلة جديدة من التعاون".
وختم بالقول: "لقد دعمنا سوريا في الحرب الأهلية، وسنواصل دعمها اقتصاديًا وسياسيًا بما يخدم استقرارها ووحدة أراضيها".