حين تتحدث الأطلال.. قصة كنيسة في بغداد وزوارها المسلمون (صور)

حين تتحدث الأطلال.. قصة كنيسة في بغداد وزوارها المسلمون (صور)
2024-12-29T16:32:37+00:00

شفق نيوز/ ما إن تفتح الباب المتهالك المكسو بالصدأ، حتى تجد نفسك أمام مشهد مؤلم: غرف محترقة وأكوام من بقايا أثاث، كان ذات يوم متألقًا يحتضن أبناء المكوّن المسيحي أثناء أدائهم صلواتهم وقدّاساتهم. هذا هو حال كنيسة مار يعقوب أسقف، الواقعة في حي آسيا بمنطقة الدورة جنوبي بغداد.

لم يتبقَّ من الكنيسة سوى الذكريات، وهي ذكريات لا تزال حاضرة في قلوب المسلمين القاطنين بالقرب منها، بعدما هاجر أبناء المكوّن المسيحي عن المنطقة. المسلمون هنا يستعيدون بحنين قصص التعايش والسلام التي جمعتهم بجيرانهم المسيحيين، عندما كانوا يحتفلون سويًا بالأعياد في هذه الكنيسة. واليوم، يبذلون جهدهم لإحياء تلك الذكريات بإيقاد الشموع داخلها، رمزًا للأمل والوحدة.

نهلة إياد، شابة مسلمة تبلغ من العمر 30 عامًا، تعبر يوميًا بجوار كنيسة مار يعقوب أسقف، ولا تفوّت فرصة لإيقاد شموع أمنياتها في أرجائها، رغم ما ألمّ بها من دمار. 

تقول لوكالة شفق نيوز: "هذه الكنيسة من أماكن العبادة التي يُستجاب فيها الدعاء. جربت ذلك مرارًا وشعرت بالسكينة." تتحدث نهلة بشجن عن الأيام التي كانت الكنيسة تعج فيها بالصلاة والقداس، حين كانت تجمع العائلات المسيحية والمسلمة في أجواء مفعمة بالمحبة والإخاء.

كنيسة مار يعقوب أسقف، التي تأسست عام 1965، لم تكن مجرد مكان عبادة، بل كانت واحدة من أبرز معالم حي آسيا. ارتبطت الكنيسة بمدرسة للاهوت وتعليم الديانة المسيحية، قبل أن تنفصل المدرسة عنها وتُعرف لاحقًا باسم "مدرسة الأجيال"، لتظل شاهدة على حقبة مشرقة من التعايش والتآخي.

لكن بعد عام 2003، شهدت الكنيسة تدهورًا كبيرًا في أحوالها، إثر مغادرة معظم العائلات المسيحية المنطقة بسبب التوترات الأمنية التي عصفت ببغداد. وجاءت الضربة القاصمة في عام 2007، عندما استهدفها تنظيم القاعدة بتفجير دمّر معظم محتوياتها، تاركًا وراءه أطلالًا تحمل ذكرى ماضٍ غني.

اليوم، لم يبقَ من الكنيسة سوى شواخصها الخارجية، شاهدة صامتة على تاريخها العريق. أما في الداخل، فالأطلال تنطق بالصمت، والتمثال الذي كان يزين منصة العذراء بات غائبًا. 

ورغم ذلك، لا تزال بعض العائلات، مسلمة ومسيحية، تزور المكان لإيقاد الشموع، خاصة في المناسبات مثل استقبال العام الجديد. مشهد هذه الشموع المضيئة يعيد بصيصًا من الأمل لهذا المكان المقدس، الذي يحمل في طياته رمزية التعايش والإيمان رغم كل ما مرّ به.

إبتهال الساعدي، امرأة مسلمة تبلغ من العمر 57 عامًا، تستعيد بحنين ذكرياتها عن أيام كانت تشارك جيرانها المسيحيين الصلوات والاحتفالات داخل كنيسة مار يعقوب أسقف قبل أن يضطروا للهجرة من بغداد. تقول بأسى لوكالة شفق نيوز: "كانت الكنيسة تجمعنا بالحب والسلام، واليوم أصبحت شاهدة على أيام مؤلمة."

منطقة الدورة، التي تُعد واحدة من أبرز مناطق تواجد المسيحيين في بغداد، كانت تضم العديد من الكنائس التي تنتمي لمختلف طوائف المكوّن المسيحي، من الكلدان إلى الكنيسة الشرقية القديمة وغيرها. ورغم الظروف، ما تزال بعض هذه الكنائس شاخصة في المنطقة، على الرغم من معاناتها المستمرة. 

في مارس/آذار 2023، جرى هدم دير الرهبان الكاثوليك في الدورة، الذي كان يمثل معلمًا تاريخيًا بارزًا يعود إلى ستينيات القرن الماضي، ويُعد من أكبر الصروح المسيحية في المنطقة.

لكن الإهمال ليس حكرًا على الدورة؛ فمعظم الكنائس في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية تعاني من تدهور كبير. العديد من الكنائس التاريخية، خاصة في مناطق مثل الشورجة وشارع النضال وسط بغداد، تحولت أجزاء منها إلى مخازن للمحال التجارية أو مرائب للسيارات، فيما استُغلت أخرى من قبل مؤسسات أهلية اقتطعت مساحات منها، مع إغلاق قاعاتها منذ سنوات.

بالنسبة لوضع كنيسة مار يعقوب أسقف، يوضح حارسها بسام سعيد لوكالة شفق نيوز أن "عدد العائلات المسيحية المتبقية في الحي لا يتجاوز 15 عائلة بعد أن كان العدد يصل إلى 100، ما جعل إعادة الإعمار مشروعًا مؤجلًا."

ورغم هذا الخراب، يبذل المسلمون والمسيحيون معًا جهودًا رمزية لتنظيف الكنيسة وإحياء بعض الأنشطة فيها. لكن المكتبة التي كانت تزخر بالمخطوطات النادرة والكتب القيمة، والقاعات التي كانت تضج بالدروس والفعاليات، باتت فارغة تمامًا، بعد أن سُرقت جميع محتوياتها، تاركة المكان شاهدًا صامتًا على حقبة من التعايش والتآخي الذي خفت وهجه.

بحسب تقديرات لويس مرقص، نائب رئيس منظمة حمورابي لحقوق الإنسان، شهدت بغداد انخفاضًا حادًا في عدد المسيحيين، حيث تراجع عددهم إلى أقل من 10 آلاف بعد أن كان 400 ألف في سنوات ماضية. هذا التراجع أدى إلى إغلاق عدة كنائس بارزة، مثل كنيسة "قلب يسوع الأقدس" في الكرادة وكنيسة "الثالوث الأقدس" في منطقة البلديات.

وفقًا للإحصائيات الرسمية، يشكل العرب نحو 2% فقط من المسيحيين في العراق، ما يعكس الخصوصية الطائفية المميزة لهذا المجتمع. تضم بغداد ثلاث كنائس يونانية أرثوذكسية وأربع كنائس قبطية أرثوذكسية، إلى جانب 57 كنيسة للروم الكاثوليك موزعة في أنحاء العراق، بالإضافة إلى عدد محدود من كنائس البروتستانت، ما يعكس التنوع العريق الذي طالما كان جزءًا من النسيج العراقي.

كنيسة مار يعقوب أسقف ليست مجرد بناء، بل رمز عريق للتعايش والسلام، تتحدث أطلالها اليوم عن ماضٍ مليء بالمحبة والتسامح. تستغيث هذه الكنيسة بكل من يستطيع إعادة الحياة إلى أروقتها لتعود كما كانت: مكانًا يجمع القلوب، ويضيء طريق المحبة والتسامح

Shafaq Live
Shafaq Live
Radio radio icon