"اليكتي" في خمسينيته.. ظلال الرفاق تزداد طولاً في دباشان

شفق نيوز/ من تلة دباشان المطلّة على السليمانية، حيث كانت القرارات تُتخذ وتُصاغ المعادلات السياسية لعقود، يحلّ اليوبيل الذهبي لتأسيس الاتحاد الوطني الكوردستاني (يَكِتي) من دون وجوهه التاريخية التي خاضت معه السلم والحرب. في مقعد الزعيم الراحل جلال طالباني يجلس اليوم نجله بافل، تحيط به نُخبة شابة تتقن لغة العصر لكن تفتقد رمزية البدايات.
تبدو الباحة الخضراء وقد توقّف فيها الزمن؛ المقاعد الخشبية والصور المعلّقة تراقب بصمت جيلاً جديداً يحتفل بنصف قرن من عمر الحزب وسط غياب للرعيل الأول. لا شعارات ثورية ولا خطابات تأسيسية تُلقى، بل رؤى معاصرة تتأرجح بين طموحات المستقبل وثِقل ماضٍ لم ينزح بعد.
كان الاتحاد الوطني لاعباً محورياً في المشهدين الكوردي والعراقي، لكن ذكراه الخمسين تحوّلت من لحظة مجد إلى مرآة قلقة تعكس تصدّعات داخلية وفقدان توازنٍ يتهدّد أحد أهم أحزاب العراق بعد 2003 وأبرز الحركات في التاريخ الكوردي المعاصر.
إرث مام جلال
منذ وفاة مؤسسه التاريخي جلال طالباني عام 2017 أو كما يعرف بـ"مام (العم) جلال"، ترنّح الحزب بين محاولات إعادة التموضع ومظاهر التفكك. انتقال القيادة إلى نجله بافل لم يكن انتقالاً سلساً، بل افتتح سلسلة من التوترات الداخلية. لم يمر وقت طويل حتى ظهرت خلافات حادة أفضت إلى تهميش شخصيات مؤثرة، وخروج قيادات قديمة، بعضها اختار الاستقالة، وبعضها الآخر أُبعد قسراً.
في طليعة هؤلاء كان لاهور شيخ جنكي، الذي كان رئيساً مشتركاً للحزب، قبل أن يُقصى في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، القائمة تضمنت ايضاً شخصيات بارزة مثل ملا بختيار، محمود سنكاوي، وبرهم صالح وغيرهم من الرموز الذين مثّلوا معالم الهوية السياسية والفكرية للحزب.
يرى الأكاديمي كارزان مراد، في تصريح لوكالة شفق نيوز، أن ما يحدث في "اليكتي" لا يتعلق بإصلاح تنظيمي كما يُقال، بل بـ"تبديل جوهري في بنية الحزب الذي تأسس على التعدد والتوازن داخل القيادة، لكن ما نشهده الآن هو مركزية شديدة تعيد الحزب إلى دائرة القرار الفردي".
وبعد أن تحدث عن تراجع الحزب بتأثيره داخلياً وخارجياً، يشير إلى أن زيارة بافل طالباني إلى الولايات المتحدة، التي استمرت أكثر من عشرين يوماً دون أن يتسنّى له لقاء أي مسؤول حكومي أمريكي – بحسب المعلومات المتوفرة – تعكس ذلك التراجع. في المقابل، سبق أن زار مسرور بارزاني الولايات المتحدة، وتم استقباله من قبل وزير الخارجية الأمريكي وعدد من الشخصيات البارزة.
ولا يقتصر الأمر، بحسب مراد، على العلاقات مع الغرب، بل يشمل أيضاً إيران التي كانت تقليدياً أقرب إلى الاتحاد الوطني والتي باتت اليوم تتعامل بشكل أكثر انفتاحاً ووضوحاً مع الحزب الديمقراطي، كما ظهر في زيارة نيجيرفان بارزاني الأخيرة إلى طهران ولقائه بكبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس الجمهورية ووزراء بارزون.
يرى مراقبون أن ما يحدث هو صراع أجيال مشروع، بينما يراه آخرون إزاحة متعمدة للذاكرة. دلشاد نامق، مراقب سياسي قريب من الحزب، يقول إن "التحولات جزء من منطق العمل السياسي، ولا يمكن لحزب أن يظل رهينة ماضيه مهما كان نبيلاً".
لكن حسن راوي، أحد الكوادر المخضرمة، يرد بأن "استبعاد الرموز هو استبعاد للشرعية التي تأسس عليها الحزب، وهو ما ينعكس سلباً على نظرة الداخل والخارج إليه".
ويرى أن تأثير هذه الخطوات يتعدى الداخل، قائلاً: "حتى الشركاء الدوليون أصبحوا ينظرون إلى الاتحاد الوطني بوصفه حزباً مرتبكاً، فاقداً للرؤية، بينما ينظرون إلى أربيل كوجهة أكثر استقراراً وتنظيماً".
أزمة قيادة أم أزمة شرعية؟
هذه الرؤية والتقاطعات يجملها بمنظور أوسع، الباحث والكاتب بدر اسماعيل شيروكي، الذي يربط هذه النمطيات بسياق ثقافي واجتماعي. يقول: "بشكل عام، نلاحظ اليوم في الحياة السياسية هناك أزمة وجدانية، لا فقط تنظيمية. هناك انقطاع بين القاعدة والقيادة الجديدة التي لا تمتلك الرمزيات القديمة، ولا الجاذبية النضالية التي كانت تميز القادة السابقين".
ويتابع: "السياسة في كوردستان لم تكن يوماً مجرد مؤسسات. إنها علاقة أبوية، وجدانية، بين القائد والشعب. هذا النمط ينهار، والبديل لم يتبلور بعد".
على الأرض، لا تبدو مؤشرات القوة في صالح الاتحاد. ففي السليمانية، معقله التاريخي، بدأت قوى سياسية جديدة تبحث عن ملء الفراغ. اليوم حزب "بەرەی گەل- جبهة الشعب" بقيادة لاهور شيخ جنكي، يشكّل تحدياً جدياً للاتحاد الوطني داخل قاعدته الاجتماعية، كما حدث مسبقاً مع حركة التغيير، وأحزاب وحركات أخرى انشقت عن الاتحاد.
أما على الصعيد الكوردستاني، فقد فقد الحزب زمام المبادرة في الملفات الكبرى، من الرواتب إلى النفط، حيث بات شريكه التاريخي الحزب الديمقراطي هو من يدير السلطة فعلياً في الإقليم، ويتفاوض مع بغداد.
الاتحاد يرد: تنظيم لا تهميش
ومع ما سبق يقول الكادر المتقدم في الاتحاد الوطني الكوردستاني برهان شيخ رؤوف، في تصريح لوكالة شفق نيوز: "ما يشهده الاتحاد الوطني في الوقت الراهن لا يمكن وصفه بأنه عملية إقصاء أو تهميش للشخصيات المخضرمة والقيادية التي كان لها دور بارز في مسيرة الحزب".
ويضيف: "ما يحدث اليوم هو أقرب إلى كونه صراع أجيال، وهو أمر طبيعي ومتوقّع في جميع الأحزاب والمجتمعات، حيث تتلاقى رؤى وخبرات القيادات القديمة مع طموحات وتوجهات الجيل الجديد".
كما يشير إلى أن الحزب يعمل اليوم ضمن رؤية متوازنة، تستند إلى مجلس المصالح العليا، الذي يضم شخصيات تاريخية ما زالت تسهم في تقديم المشورة والمساهمة في صناعة القرار.
وفي مهرجان جماهيري نُظّم في ملعب السليمانية احتفاءً بالذكرى الخمسين، ألقى بافل طالباني كلمة أمام حشد من أنصار الحزب، في مشهد حمل رمزية لافتة بظهور الرئيس العراقي الأسبق والقيادي في الاتحاد فؤاد معصوم. توسطت أمامهم لافتة حملت صور مؤسسي الاتحاد الوطني، يتقدمهم جلال طالباني، في محاولة لاستعادة الصلة الرمزية بالماضي المؤسس.
في كلمته، قال بافل إن "الاتحاد الوطني قوي. يُنظر إليه في بغداد والمنطقة بعين الاهتمام". وأضاف أن الحزب "يحافظ على توازن القوى في إقليم كوردستان"، وأنه يسعى إلى حلّ المشكلات في بغداد، مؤكداً أن الشعب الكوردي لا يملك عداءً مع "الإخوة العرب".
وفي إشارة لافتة إلى الأدوار الإقليمية، قال طالباني إن الاتحاد الوطني "له دور مهم في عملية السلام بتركيا، وهو الذي يستطيع حماية حقوق الشعب الكوردي".
مراجعة في مرآة يسارية
تأسس الاتحاد الوطني في 1975 على أفكار يسارية، جمعت بين الطموح القومي الكوردي والروح الاشتراكية، وبعد خمسين عاماً، يواجه اختباراً مزدوجاً: الحفاظ على هويته، وإثبات فاعليته في ظل التحولات العاصفة.
في ذكرى كان يُفترض أن تكون عرضاً لتراكم الإنجازات، لكن، يذهب الرأي السياسي، إلى أنها جاءت بمثابة محكمة داخلية، تُعرض فيها صورة الحزب على مرآة نصف قرن، ويُقاس فيها البقاء بميزان الرمز والفاعلية.