"الوداع الأخير للجبال".. قراءة للقضية الكوردية في خضم التطورات الإقليمية
شفق نيوز- تحليل خاص
تتقدم مبادرة تركية لنزع سلاح حزب العمال الكوردستاني، بخطوات بطيئة وحذرة في الوقت نفسه، بعد المراسم الرمزية لتسليم وإحراق أسلحة مقاتلي الحزب في 11 تموز/ يوليو الجاري بالقرب من محافظة السليمانية في إقليم كوردستان، حيث يبدو أن معادلات المشهد الإقليمي المتقلب، هي الأكثر خطورة لتقويض أو تأجيل التقدم في عملية السلام المحفوفة بالمجازفات.
صحيح أن مشهد نزول المقاتلين والمقاتلات في حزب العمال الكوردستاني من الجبال والكهوف لتسليم سلاحهم، يحمل الكثير من الدلالات في هذا الصراع الممتد منذ 50 سنة، لكن تماسك المشهد واستمراره، سيظلان مرهونين بالأيام والأسابيع المقبلة، وما إذا كان هذا الدفع نحو التسوية "التاريخية" سيواصل مسيرته الإيجابية أم سيتعثر بعقبات السياسة والأمن والحسابات الإقليمية وتأثيراتها.
مؤشرات رمزية تركية
وفي مؤشرات رمزية ولكن لافتة بتخفيف القيود، سمحت السلطات التركية لزعيم حزب العمال الكوردستاني المنحل عبد الله أوجلان، أن يستقبل في سجن إيمرالي، ابن أخيه عمر أوجلان، وذلك ضمن زيارة عائلية، بحضور وكيله مظلوم دينش، وذلك بالإضافة إلى استقباله مجدداً وفداً من حزب "الديمقراطية والمساواة للشعوب"، المعروف باسم "وفد إيمرالي".
ويقول مراقبون إن الخطوة التي تبدو أكثر أهمية الآن تتعلق باللجنة البرلمانية التي سيعلن عنها بكامل أعضائها، ومن المفترض أن تبدأ أعمالها مع بداية شهر آب/ أغسطس المقبل، والتي يفترض أن تواكب عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني، من خلال تشريعات وقوانين تساهم في تمهيد الطرقات أمام التسوية ومعالجة التحديات القانونية والتشريعية القائمة منذ عقود، أو تلك التي ستنشأ على الطريق نحو السلام، خصوصاً ما يتعلق بضمان الوئام الاجتماعي ومسائل العدالة والعفو.
ولفت المراقبون إلى أن اللجنة المقترح تسميتها "لجنة السلام الاجتماعي والعدالة والتوافق الديمقراطي"، ستضم 51 نائباً، غالبيتهم من حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى جانب حزب الشعب الجمهوري، والحركة القومية، وحزب الديمقراطية، والمساواة للشعوب.
المشهد الإقليمي
لكن المشهد أكبر من اللجنة وزيارات أوجلان والنقاشات المكثفة الدائرة في تركيا، في برلمانها، وأحزابها، وسياسييها، والقصر الرئاسي والحكومي، فهناك متابعة دقيقة جارية منذ مراسم تسليم السلاح في السليمانية، تتخطى سجن إيمرالي والقادة التاريخيين لحزب العمال الكوردستاني في معاقلهم الجبلية وكهوفها في العراق وسوريا.
المتابعة تشمل أيضاً حكومة محمد شياع السوداني في بغداد؛ والسلطات السورية الجديدة في دمشق؛ وسلطات الإدارة الذاتية التي يقودها الكورد في الشرق السوري؛ وقادة إيران والحرس الثوري في طهران؛ وقادة إقليم كوردستان؛ وقادة الأحزاب والإعلام في تركيا؛ والاتحاد الأوروبي؛ وإدارة دونالد ترامب ومبعوثيها إلى المنطقة؛ وبالتأكيد إسرائيل.
وانشغل العالم لعقود بقضية الكورد، وبمسيرة حزب العمال الكوردستاني ونشاطه وهجماته وأهدافه ورهاناته، إلا أن العالم الذي شاهده أوجلان في بداية سبعينيات القرن الماضي، ليؤسس من بعدها الحزب في العام 1978، ثم يطلق "الكفاح المسلح" في العام 1984، تبدل جذرياً، وتغيرت توازنات القوى ومصالحها، وآمال الكورد في تركيا والعراق وسوريا وإيران، وكان مشهد النزول الرمزي في السليمانية تذكيراً جديداً للكورد، ولكل من يعنيهم الأمر، بأن الكورد يراهنون مجدداً على السلام وعلى صداقات لا تقتصر على الجبال التي حمتهم طويلاً.
إقليم كوردستان
ويقول المحلل المتخصص بالشؤون التركية والسورية، سركيس قصارجيان، لوكالة شفق نيوز، إن "حزب العمال الكوردستاني رسخ وجوده العسكري والسياسي في مناطق عديدة أبرزها قنديل ومخمور وسنجار وقد شكل هذا الوجود عوامل مثيرة للتوتر المتواصل مع تركيا من جهة، والحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كوردستان من جهة أخرى، وأنه برغم المطالبات المستمرة من قبل الحكومة الاتحادية بانسحاب هذه القوات، إلا أن أنقرة تواصل وجودها الأمني والعسكري".
ولم يستبعد قصارجيان أن تمارس أنقرة ضغوطاً على بغداد وأربيل ودمشق من أجل إنهاء أي وجود عسكري لحزب أوجلان أو الأحزاب المرتبطة به في مناطقهم، في حين تجد الأحزاب الكوردية في إقليم كوردستان نفسها أمام لحظة مفصلية لإعادة تشكيل التوازن داخل البيت الكوردي في مرحلة ما بعد مراسم السليمانية وبدء تسليم حزب العمال الكوردستاني أسلحته.
ومع ذلك، يقول مصدر سوري مطلع على تطورات المشهد الكوردي، إن الآمال العالية بالسلام، لا تعني بالضرورة أن السلام سيكون مضموناً بحسب ما أظهرته أحداث العقود الماضية فيما يتعلق بالكورد خصوصاً.
وحتى وإن كانت دعوة زعيم الحركة القومية التركي دولت بهجلي في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، للمصالحة بين تركيا وحزب أوجلان، في حال وافق على حل نفسه، أثارت كل هذا التفاؤل، إلى جانب اللهجة التصالحية التي بدأ الرئيس رجب طيب أردوغان باستخدامها عند الحديث عن الكورد عموماً بإشارته مثلاً إلى الإخفاقات التاريخية للدولة في معالجة القضية الكوردية، وانتقاده للانتهاكات السابقة بحق الكورد خارج نطاق القضاء، قائلاً بوضوح "لقد دفعنا جميعاً ثمن هذه الأخطاء"، وإشارته أيضاً إلى أن الصراع كلف تركيا نحو 50 ألف قتيل وأكثر من تريليوني دولار من الخسائر.
ولم تكن العناصر التي حفزت التسوية بين أنقرة وحزب أوجلان، داخلية فقط. إذ يقول مراقبون إن الأذى الذي لحق بإقليم كوردستان نتيجة الصراع العسكري بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني، كان من بين العوامل التي جعلت أربيل تُفعّل حراكها ومواقفها المؤيدة للتسوية حتى قبل مشهد التسليم في السليمانية.
ويقول قصارجيان إن "قيادة إقليم كوردستان نجحت في دبلوماسيتها البراغماتية في خلق توازن بعلاقاتها المتوترة مع بغداد بشأن تقاسم الموارد مقابل تعزيز علاقاتها مع كل من تركيا والولايات المتحدة ودول المنطقة، ولهذا فإن حلّ حزب العمال الكوردستاني لنفسه، قد يشكل نقطة تحول تاريخية في القضية الكوردية".
التقارب العراقي التركي
ويقول مراقبون أيضاً إن تقارب حكومتي بغداد وأنقرة خصوصاً، مثلاً من خلال مشروع "طريق التنمية" الإستراتيجي للبلدين، ساهم في دفع احتمالات معالجة هذا الملف وتوقيع العراق على اتفاقية تعاون أمني مع تركيا في آب/ أغسطس 2024، تسمح بمواجهة حزب العمال الكوردستاني على الأراضي العراقية من خلال تصنيفه كحزب محظور.
وما يزال من غير الواضح حتى الآن، ما إذا كانت كل الفصائل الكوردية المسلحة سواء المرتبطة بحزب العمال الكوردستاني أو تنشط من خارجه، ستعتبر نفسها معنية بالاتفاق وتسليم السلاح، وما إذا كانت كل قيادات حزب أوجلان المنحل، ستسير حتى النهاية بخطوات نزع السلاح، حيث لا يستبعد مراقبون أن تظل هناك مجموعات مستعدة لمواصلة القتال طالما أن علاجاً شاملاً للقضية الكوردية لم يتحقق بالكامل سواء في أروقة السياسة التركية الداخلية أو في دول المنطقة الأخرى المعنية خصوصاً في سوريا وإيران.
فبينما يتمتع الكورد في شمال العراق بوضع خاص ومستقر عموماً، ويحظون باعتراف دولي بشرعية إقليمهم، فإن الكورد في شمال شرق سوريا، حيث يتداخل أيضاً حضور حزب العمال الكوردستاني هناك، بدأوا يشعرون بالتضييق الخارجي عليهم، وأن علاقتهم المميزة مع الولايات المتحدة منذ 15 سنة، وتسليحها لهم ودعمهم مالياً، لم تعد تحصنهم وتحميهم، سواء أمام ضغوطات أنقرة، أو أمام سطوة الميليشيات السورية الممولة والمسلحة من طرف تركيا، أو من طرف القوات الأمنية التابعة لحكومة الرئيس المؤقت أحمد الشرع.
وحدة سوريا
ويستعيد المراقبون تصريحات للمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا ولبنان توم باراك في إطار مساندة واشنطن العلنية لسلطة أحمد الشرع، عندما قال مؤخراً "لا يمكن أن نقبل بدولة داخل الدولة. هذا لا يعني أننا في طريقنا لإنشاء كوردستان حرة في سوريا. ولا دولة علوية أو يهودية. هناك سوريا واحدة، تعاد هيكلتها. سيكون لها دستورها وبرلمانها. جميع الطرق تؤدي إلى دمشق، دولة واحدة، أمة واحدة، جيش واحد، وهذا ما هو قيد التشكيل حالياً".
وعلى الرغم من التدخل الأمريكي والفرنسي المباشر، فإن المفاوضات بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وسلطة الشرع، ما تزال متعثرة. وفي الوقت نفسه، تربط أنقرة بوضوح بين نجاح حلّ الإدارة الذاتية للكورد السوريين، وبين نجاح خطواتها في التعامل مع ملف حزب العمال الكوردستاني.
تركيا وإسرائيل
ثم جاءت مذبحة السويداء الدرزية والتدخل العسكري الإسرائيلي المباشر تحت مسمى "حماية الأقلية الدرزية" ليعزز من موقف "قسد" في مفاوضاتها، خصوصاً حول مصير قواتها المسلحة، مع سلطة الشرع التي بدت غير قادرة، وربما بحسب اتهامات منظمات حقوقية، متورطة بشكل مباشر في وقوع المذبحة الدرزية.
ويقول قصارجيان إن حدة التنافس الإقليمي بين تركيا وإسرائيل على "الكعكة السورية" تتصاعد، وأصبحت الإستراتيجية التركية الخاصة بالإدارة الذاتية للكورد تتضمن جانبين سياسي وعسكري، فمن جهة تدفع أنقرة باتجاه دمج "قسد" في المؤسسة العسكرية السورية، وحل هياكل الإدارة الذاتية و"وحدات حماية الشعب".
وعسكرياً من خلال التهديد بعملية عسكرية مشتركة ضد مناطق "قسد"، والتوصل إلى اتفاق مع دمشق يشرع وجود تركيا العسكري في سوريا من خلال الاتفاق الأمني-العسكري الذي أعلنت عنه وزارة الدفاع التركية في 23 تموز/ يوليو الجاري، والإعلان عن خطة لتدريب الجيش السوري وتسليحه.
انقلاب المشهد بهذا الشكل في دمشق، مع التحول في موقف بغداد من حزب العمال الكوردستاني وتقاربها مع أنقرة، والتبدل الجذري في موقف واشنطن والذي مهد إليه ترامب في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث قال الرئيس الأمريكي إن أردوغان "رجل ذكي وقوي جداً ومفتاح سوريا سيكون بيده"، هي كلها من العوامل الأساسية التي قرأها حزب العمال الكوردستاني، وأدرك مراميها، وذلك بالإضافة إلى الحروب الإسرائيلية في المنطقة، كلها تشير إلى أن المنطقة تخوض مرحلة إعادة رسم مصالح ونفوذ.
ولهذا، ولأسباب أخرى عديدة، يبدو أن حزب العمال الكوردستاني "انحنى أمام العاصفة"، لكن تبقى التحديات جسيمة ومحفوفة بالمخاطر، حتى لو كان مشهد التخلي عن الصداقة مع الجبال، مثيراً لكل هذا التفاؤل.