الموازنة "المفقودة".. معيشة العراقيين تتحول إلى "أداة سياسية" في مزاد الدعاية الانتخابية

شفق نيوز/ يهدد تأخير إقرار جداول الموازنة العامة الاتحادية لعام 2025 في العراق، الاستقرار المالي والمشاريع الخدمية والتنموية وصرف الرواتب والمستحقات وغير ذلك من الآثار التي تنعكس بشكل مباشر على حياة الأسر العراقية اليومية، بحسب مراقبين.
ويرى مراقبون، أن الموازنة تحولت إلى "أداة سياسية" في المواسم الانتخابية، وباتت تُستخدم وسيلة للضغط والمساومة بين الكتل، دون مراعاة للأثر الذي تتركه هذه المماطلات المستمرة منذ أكثر من نصف السنة.
فعلى الرغم من مرور أكثر من ستة أشهر على بدء العام المالي، ما تزال الحكومة العراقية لم ترسل جداول موازنة عام 2025 إلى مجلس النواب لغاية الآن، وسط توقعات بعدم إرسالها إلى البرلمان في ظل مخاوف من استغلالها في الدعاية الانتخابية.
أزمة مالية واجتماعية
ويحذر مختصون من التداعيات الاجتماعية الخطيرة الناجمة عن الواقع الاقتصادي المتردي في العراق، وخصوصاً ما يتعلق بتأخر إقرار الموازنات العامة سنوياً، مؤكدين أن هذا التأخير لا يُعد أزمة مالية فحسب، بل يمثل أزمة اجتماعية تمسّ بنية المجتمع وتماسكه.
وبهذا السياق، تقول الباحثة الاجتماعية، رقية سلمان، إن "الاضطراب في السياسات المالية، وتكرار سيناريو تأخير الموازنة، يؤدي إلى تعطيل المشاريع الخدمية والتنموية، وتأجيل صرف الرواتب والمستحقات، وغياب فرص العمل، وكل ذلك ينعكس بشكل مباشر على استقرار الأسر العراقية، لا سيما الفئات الهشة والمعتمدة على الرعاية الاجتماعية أو العقود المؤقتة".
وتشير سلمان خلال حديثها لوكالة شفق نيوز، إلى أن "الواقع المعيشي لأغلب العراقيين بات مرهوناً بتقلبات سياسية، حيث تُستخدم الموازنة أداة للضغط والمساومة بين الكتل، دون مراعاة للأثر الذي تتركه هذه المماطلات على حياة الناس اليومية، من تأخر دفع الإيجارات، إلى العجز عن تلبية الحاجات الأساسية من الغذاء والتعليم والعلاج".
وتضيف، أن "تأخر المشاريع المرتبطة بالموازنة، مثل المدارس والمراكز الصحية والبنى التحتية، يعمّق الفجوة بين المواطن والدولة، ويؤدي إلى مشاعر الإحباط واليأس، خاصة لدى الشباب الذين يترقبون فرص عمل أو تدريب"، مؤكدة أن هذا الوضع "يؤثر سلباً على الصحة النفسية والاجتماعية ويزيد من نسب الهجرة والبطالة والعنف الأسري".
وتتابع الباحثة الاجتماعية، أن "الشرائح الفقيرة والطبقة الوسطى المتآكلة هي الأكثر تضرراً، حيث إن ارتفاع الأسعار نتيجة تأخير صرف الرواتب وزيادة النفقات غير المقرّة رسمياً يؤدي إلى خلل في التوازن المجتمعي، بينما تبقى طبقة سياسية بعيدة عن هذه المعاناة".
وتؤكد، أن "الجانب الاقتصادي لا يمكن فصله عن الواقع الاجتماعي، وأي تأخير أو ارتباك في إدارته يترك أثراً مباشراً على حياة الأفراد واستقرارهم، ومن الضروري أن تكون الموازنة أداةً للعدالة الاجتماعية والتنمية، لا ورقة سياسية لتصفية الحسابات الحزبية".
أداة سياسية
من جهته، يرى المحلل السياسي، مجاشع التميمي، أن "تأخير إقرار جداول موازنة 2025 لا يمثل خللاً فنياً فقط، بل يُظهر مجدداً كيف تتحول الموازنة إلى أداة سياسية في المواسم الانتخابية، حيث يُستغل غياب الاستقرار التشريعي لتوسيع النفقات دون تخطيط، وعرقلة الاستحقاقات المالية الأساسية، بما فيها العلاوات والترفيعات وحقوق المحافظات والجهات المنفذة".
ويحذر التميمي خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، من أن "هذا الوضع يهدد الاستقرار المالي ويضعف ثقة المستثمرين والجهات المانحة، ويُحمّل المواطنين والموظفين كلفة التلكؤ السياسي، ما يستدعي تحصين المسار المالي من التجاذبات وتغليب المصلحة العامة على الحسابات الحزبية الضيقة".
ويتوقع، أن "الأخطر من ذلك، أن العام المقبل قد يشهد غياب موازنة اتحادية بالكامل، بسبب احتمالية تأخر تشكيل الحكومة لعدة أشهر بعد الانتخابات، ما يعني أن عام 2026 سيمضي وفق قاعدة الصرف المؤقت المنصوص عليها في قانون الإدارة المالية، وهو ما يحد من قدرة الدولة على تنفيذ مشاريع جديدة أو معالجة أزمات طارئة".
تأخر مع قلة التخصيصات
وتأتي تلك التحذيرات وانكاسها على تنفيذ مشاريع جديدة بالمحافظات، في وقت يعتبر نائب رئيس الأقاليم والمحافظات في البرلمان العراقي، جواد اليساري، أن "محافظتي المثنى وكربلاء هما الأكثر تضرراً من قلة التخصيصات المالية في الموازنة".
ويوضح اليساري لوكالة شفق نيوز، أن "التخصيصات المالية للمحافظتين اعتمدت على عدد السكان القديم، دون الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السكانية الحالية ونتائج التعداد السكاني الأخير الخاص بكل محافظة".
ويطالب النائب بـ"زيادة المبالغ المخصصة للمحافظات حتى تستطيع الحكومات المحلية استثمار الأموال في إنجاز مشاريع خدمية".
وهذا ما تؤكد عليه أيضاً عضو لجنة الخدمات النيابية، مهدية اللامي، بالقول إن "مستوى الخدمات في المحافظات لا يتناغم مع تخصيصات الموازنة، وخاصة في الديوانية التي تعد من المحافظات المنكوبة خدمياً، وبالتالي هي بحاجة إلى زيادة تخصيصاتها المالية".
وإلى جانب الديوانية، تضيف اللامي لوكالة شفق نيوز، أن "محافظة بابل تعاني أيضاً من تردي الخدمات، فما منجز من البنى التحتية لعام 2023 هو 6% فقط، كما هناك نقص في الخدمات في محافظتي الأنبار وصلاح الدين المتضررتان من الإرهاب".
وبالإضافة إلى ذلك، تشير إلى "وجود مشاريع مندثرة منذ سنوات طويلة، منها مشروع الصرف الصحي في النجف، ومشروع ماء المحمودية الكبير، وجزء من أسباب تلكؤها هو تأخر صرف الموازنات، وهذا ما يلاحظ على سبيل المثال في دائرة مشاريع أمانة بغداد التي تشهد وقفة يومية لمقاولين وأصحاب شركات ممن يطالبون بتسديد ديونها إليهم".
تأخير الصرف.. فساد
وبهذا الصدد، يعتبر المختص في الشأن القانوني، عباس العقابي، أن الفساد في العراق لا يقتصر على سرقة الأموال بشكل مباشر، بل يشمل عدة صور قانونية أخرى تستوجب المحاسبة، بينها تعطيل المشاريع وتأخير صرف المخصصات المالية.
ويشرح العقابي لوكالة شفق نيوز، أن "من يتأخر في صرف مستحقات مالية وردت في قانون الموازنة العامة، يمكن إقامة دعوى قضائية بحقه أمام المحكمة الاتحادية، استناداً إلى المادة 93/ثالثاً من الدستور العراقي"، مؤكداً أن "هذه الأفعال لا تقل خطورة عن الفساد المالي المباشر".
لكن الخبير المالي والاقتصادي، عبد الرحمن الشيخلي، يوضح أن "جميع المشاريع كانت مدرجة ضمن الموازنة الثلاثية (2023، 2024، 2025) التي أُقرت بموجب القانون رقم 12 لسنة 2023، لكن بسبب انخفاض أسعار النفط عن السعر التقديري 70 دولاراً للبرميل في الموازنة الثلاثية إلى حدود 55 دولاراً للبرميل، حصل عجز في تمويل المشاريع الاستثمارية ما أدى إلى إيقافها".
ويطمئن الشيخلي في ختام حديثه لوكالة شفق نيوز، أن "الحكومة آثرت على تنفيذ الموازنة التشغيلية المتعلقة برواتب الموظفين والمتقاعدين والرعاية الاجتماعية وبعض الالتزامات الحكومية الأخرى"، مؤكداً أن "الرواتب مؤمنة بالكامل لهذا العام وللعام المقبل، حتى لو انخفض سعر برميل النفط إلى مستوى 40 دولاراً".