"الكلاش".. إرث يمشي على قدمين منذ ألف عام (صور)

شفق نيوز/ بين إبرٍ صامتة وأصوات سوق صاخبة، ينسج صانعو “الكلاش” الكوردي في محافظة حلبجة بإقليم كوردستان حكاية عبر خيوط تُبقي على ذاكرة عمرها ألف عام.
داخل الممرات الضيقة لسوق حلبجة القديم، حيث تتجاور محال الهواتف الذكية مع بسطات البهارات، يبرز ركن يلوذ بالصمت؛ وتفوح منه رائحة القماش الخام والجلود الطبيعية، حيث يجلس أسطى نوار على أرض منبسطة وتحيط به الأدوات، وبيده رأس أبرة وهي تخترق طبقات النسيج.
يقول الأسطى نوار 60 عاماً، وقد خطّ الزمن تجاعيد دقيقة حول عينيه اللامعتين. “حتى لو ملكتُ مال الدنيا، لا أجد سكينة إلا هنا”، يقول وهو يسوّي خيطاً قطنيّاً أبيض قبل أن يغرزه في نعل لم يكتمل بعد.
إرث يتشكّل باليد
ورث نوار هذه الحرفة عن آبائه وأجداده؛ سلسلة تمتد، كما يؤكد في حديثه لوكالة شفق نيوز، إلى نحو ألف عام عندما كان “الكلاش” حذاء يومياً لأهالي كوردستان.
“الكلاش ليس مجرد حذاء”، يشرح وهو يقلب القالب الخشبي بين يديه، “إنه بطاقة هويّة كاملة؛ مواده طبيعية، يمنح القدم حرية التهوية، ويمكنك ارتداء الفردة اليمنى في اليسرى والعكس بلا أي فرق”.
يعتمد الحِياك على خطوات شبه احتفائية: قصّ القماش يدوياً، خياطة الأجزاء القطنية المتينة، ثم تدعيم الأطراف بخيوط مشدودة بدقة لتعطي الخفّ خفته الشهيرة. النتيجة، على حد وصفه، حذاء قد يعيش عامين من الاستخدام اليومي “دون أن يتلف أو يسبّب رائحة كريهة”.
شِقاق الحداثة
لكن الخيوط ليست وحدها التي تتعرض للشد، فالتطور الصناعي جرّ معه طوفان الأحذية الرخيصة والسريعة، ما قزّم مساحة الكلاش في واجهات المحال.
“الأحذية الجديدة بلا روح”، يقول أسطى نوار بينما يومئ برأسه ناحية حذاء رياضي ملوّن على رف مجاور. يضيف متنهداً: “الإقبال يتراجع، لكننا لا نقوِّم عملنا بالأرباح. هذه الحرفة رسالة”.
تشير أرقام غير رسمية من غرفة صناعة حلبجة إلى أن عدد صانعي الكلاش تقلّص من أكثر من مئة ورشة في الثمانينيات إلى أقل من عشر ورش اليوم.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الزوار خصوصاً خلال مواسم السياحة والمهرجانات يقصدون السوق لاقتناء زوج أصيل يذكّرهم بما كان عليه الأجداد.
محاولةٌ لإنقاذ الذاكرة
في محاولة لمقاومة التهميش، ينظّم عدد من الحرفيين ورش تدريب صيفية للشباب، لكن الحماس قد يصطدم بحسابات الربح السريع.
“الشاب يريد دخلاً ثابتاً”، يقول نوار رافعاً حاجبيه، “صناعة زوج واحد تستغرق نهاراً كاملاً، بينما قد يجني الشاب أجر يومه في مصنع بلا مهارة”. ورغم ذلك، يصر على استمرار الدرس: “إذا خسرنا الكلاش، نخسر جزءاً من أنفسنا”.
ما بعد الإبرة
في نهاية جولتنا، يضع الأسطى آخر غرزة في حذاء بلون العاج، يمرر يده على الخيط كأنّه يربّت على كتف رفيق قديم. “هذه القطعة ستسافر قريباً”، يبتسم بفخر، “يقال إن شخصاً من المهجر طلبها لتذكّره برائحة بيته القديم”.
في حلبجة، حيث نقش الغاز السام جرحه في ذاكرة العالم قبل عقود، يصرّ صانعو الكلاش على كتابة رواية أخرى: رواية إبرة تعانق القماش لتعيد وصل ما قطّعه الزمن. وبينما تتقلّص المساحات التراثية أمام جرافة الحداثة، يذكّر أسطى نوار بأن خيطاً واحداً قد يكفي أحياناً لحفظ هوية شعب.