في الرابع عشر من تموز، من كل سنة يستذكر التاريخ الحديث فاجعة أليمة ومحزنة مرّت على العراق والعراقيين، من العسير أن تنمحي من ذاكرتهم أو تزول من تاريخهم، بل تُؤلِبهم مرَارةً كلّما مرّت على وقوعها سنة أخرى، وحالهم مَنكُود من بعدها.
ففي صبيحة ذلك اليوم المشؤوم من عام 1958، تضرّجت باحة قصر الرحاب وارتوت بدماء زكية لعائلة علوية هاشمية شريفة، فسقط من سقط منهم وفاضت أرواحهم الطاهرة وصعدت إلى بارئها، ومعه سقط نظام دولة، دام ظلّه الوارف والآمن على العراق 37 عامًا، لا زلنا ناسف على غيابه ونتحسّر على رحيله.
العناية الألهية في لحظات ذلك الحدث الحزين ختمت على عيون مرتكبي هذه الجريمة الآثمة غشاوة فجعلتهم لا يبصرون على إثنين من سكان ذلك القصر لتنقذا جسديهما من إصابة مباشرة وموت محقق كبقيّة ساكني القصر، هما امرأتان؛ واحدة من العائلة المالكة هي الأميرة هيامبنت أمير ربيعة، زوجة الأمير عبد الإله، والثانية رازقية، المرأة المملوكة لهذه العائلة وربيبتها منذ ولادتها …!
الأميرة هيام، أُصيبت بطلق ناري في ساقها ونُقلت إلى المستشفى ومن ثمَّ غادرت إلى مقر عائلتها في منطقة الحسينية. وبعد فترة تزوّجت من ابن عمها قيس ربيعة، وأنجبت منه طفلين وتوفيت في مدينة عمّان عام 2001، ودُفنت في مقبرتها الملكية.
أما رازقية، فقد أصيبت بطلقين ناريين في ساقها الأيمن نُقلت على إثرها بسيارة مجهولة إلى المستشفى الملكي، وخرجت منه متعافية ولا زالت على قيد الحياة حتى كتابة هذه السطور.
هي رازقية بنت صالح بن هاشم، حجازية الأصل. أمها أيضاً حجازية اسمها زرافيت، كانت جارية أو عبدة للملك علي بن الحسين وأولاده، أما والدها فهو مواطن حرّ مغربي الجنسية وجاء بهما الملك علي إلى العراق مع حاشيته بعد خروجه من أرض الحجاز.
أما الأب فكان يعمل كعسكري مع العائلة، ولظروف غامضة ومجهولة قام بشنق نفسه منتحرًا بينما رازقية، لا تزال في بطن أمها. بعد فترة من وفاة زوجها، وتحديدًا في عام 1936، أنجبت الأمزرافيت، ابنتها اليتيمة رازقية، فأخذت الملكة عالية والأميرة عبدية ابنتي الملك علي على عاتقهما، كفالة هذه الطفلة ونقلتاها إلى قصر الرحاب مع ستة أطفال آخرين كانت العائلة المالكة قد تعهدت بتربيتهم معها.
لرازقيه أخ يكبرها سنّنًا أسمه عبد الرزاق، كان يعمل حارس في قصر الزهور حتى 14 تموز 1958. عندما سمعَ في فجر ذلك اليوم إطلاق نار من قصر الرحاب، فهبَّ مُسرعًا إلى القصر لنجدة أهله، لكنه وجد نفسه مع العائلة والحاشية أمام مهاجمي القصر، فأردي قتيلًا وأصبح شهيدًا بين الشهداء، ولم يُعرف أين نُقل وأين دفن ولم يُعرف له قبر حتى الآن.
نشأت رازقية، واشتدّ عُودها في أحضان هذه العائلة كأي طفلة بريئة مدللة تعيش حياتها الطبيعية في بيت أمير دون أن تَشعر أو تُشعر بأنها جارية أو مملوكة كوالدتها، بل حرّة أبيّة كمثيلاتها المتكفّلات من قِبل النساء الأميرات. ولم تكن في يوم من الأيام خادمة أو جارية أو وصيفة، كما يّعتقد البعض أو يُعتقد.
في السادسة من عمرها التحقت بالمدرسة كبقية الأطفال حيث تذهب صباح كل يوم بسيارة القصر التي تحمل الرقم (6-بـــــلاط) إلى مدرسة السعدون الابتدائية الكائنة في منطقة البتاويين، تنهل من الدروس مع أقرانها من التلاميذ وتتعلم معهم، وكان من بين زملائها في نفس الصف، الأمير رعد بن زيد بن الحسين.
أَبلَت رازقية، في المدرسة بلاءً حسنًا وأكملت تدرّجها العلمي في المتوسطة والثانوية وحصلت على الجنسية العراقية، رغم كل الظروف القاسية التي مرّت بها، في وبعد 14 تموز 1958
بعد إصابتها البليغة في صبيحة ذلك اليوم، ظلّت رازقية عدّة أيام في المستشفى الملكي، تحت طبابة ورعاية الدكتور غانم عقراوي، الذي عالجها وضمّد جراحها وأخفاها عن أعيين الغوغائيين أو ما سمّي بــ (المقاومة الشعبية)، الذين ما برحوا يبحثون في كل مكان عن مَنْ تبقّى من العائلة المالكة وحاشيتها. حتى غادرت المستشفى سرًّا بنصيحة من الطبيب نفسه. لكن ظلّت تُراجع عيادته لتضميد جراحها ولحين شفائها تمامًا من الإصابة.
بعد أن تركت رازقية المستشفى على حين غرّة، توجّهت مباشرةً إلى بيت صديقة والدتها وبمثابة خالتها المدعوة رمزية، التي هي أيضًا من جواري الملك علي بن الحسين، وتسكن منطقة الكسْرة، في دار مستأجرة، فاحتضنتها رمزية، في بيتها لتبدأ رازقية بعدها حياة جديدة تختلف عن أجواء قصر الرحاب، وبعيدة عن أحضان العائلة المالكة.
أحزان رازقية، ومأساتها فاجأتها فرحة غامرة في هذا البيت حين التقت بزميلتها في قصر الرحاب المدعوّة جازيّة، التي حَباها الله حين غيّبها عن القصر صبيحة 14 تموز، لتنجو من الموت من بعيد.
* * *
في مناسبة اجتماعية عامّة جرت في شهر نيسان الماضي التقيت بامرأة كبيرة، عَرّفت عن حالها بـ (مائدة محمد صبيح ياسين الخضيري) المتزوجة من أبناء إحدى العوائل البغدادية المعروفة هي عائلة القيماقݘي. السيدة الخضيري كانت تسكن مع زوجها المرحوم أنور وأولادها الأربعة في الدار التي تقع خلف دار جَدّي في شارع الحريري بالأعظمية. هي امرأة وقورة متقدمة في السن، تجاوزت التسعين ونيّف من العمر، سحنة الوجه، حنطية العينين، لها ذاكرة مفعمة بالنشاط والحيوية، وتمتاز بالفكر الحاد والقدرة على استرجاع الأحداث البائدة. منَّ الله عليها-وهي في هذا العمر-بصحة جيدة جدًا، وتتكأ على عصا في حركتها مُتحذّرة من غفلة الزلل لا مُلزمة لها.
قدّمتُ لها نفسي وعرّفتها عن حالي وجلستُ بالقرب منها نتبادل أطراف الحديث وذكريات الماضي الجميل والعلاقة الوطيدة بين عائلة جَدّي وعائلتها عندما كانا جارين صفيّين خلال سنين طويلة من القرن الماضي والعلاقات الحميمة بين الناس آنذاك…!
بعد أن أدركت عني ما كتبته عن المرحوم الأمير عبد الإله بن علي والكتاب الذي أصدرته عنه، أسرّت لي من خلال حديثها معي خبرًا فاجأني في بداية الأمر، لكن حثّني في النهاية على كتابة هذا المقال …! وهو أن رازقية، لا زالت حيّة تُرزق، وتسكن معها ومع ابنها محمد القيماقݘي، في نفس الدار منذ أكثر من عقدين من الزمن وإلى اليوم.
الجو الصاخب لهذه المناسبة لم يسعفني من تكملة الحديث الشّيّق معها فأنهيناه على عجل، لكننا اتفقنا على زيارتها زيارة خاصة في مسكنها لاستكمال الكلام وتكملة الأحداث عن رازقية.
بعد أسبوع من ذلك التلاقي، تحقق الموعد المتفق عليه وتشرّفت بزيارتها في شقتها العامرة فاستقبلتني والعائلة بالترحاب والسرور، وأهديتها كما وعدتها كتابي عن الأمير عبد الإله ووجدتها مستعدّة لتكملة ما انتهينا به سابقًا من حديثٍ توّاق
أسهبتْ حديثها معي فقالت: كان للملك غازي (رحمه الله) مربّية خاصة اسمها أفراح، هي من عبيد الحجاز، تسهر عليه وترعاه منذ طفولته وقدِمت مع العائلة إلى العراق لتستكمل نفس المهمة. استمرت أفراح مع عائلة الملك غازي، لحين وفاته لترحل بعدها إلى دار السيد محمد علي محمود (الحجازي الأصل)، ثمَّ انتقلت إلى بيت السيد خطّاب الخضيري (زوج جاهدة شقيقة السيدة مائدة) وفي الأخير استقرّت في بيتها الجديد عام 1960، مع عائلة القيماقݘي لتشرف على تربية أبنة السيدة مائدة الصغرى الوليدة الجديدة عالية، وكانت أفراح في حينها امرأة قد بلغت من العمر عتيّا لكنها قادرة على العمل ومقتدرة في أداء واجباتها، واُعتبرت واحدة من أفراد العائلة في وجودها وترحالها حتى توفاها الله في عام 1980.
كانت أفراح على علاقة طيبة ومستمرة مع رازقية، تزورها وصديقتها جازية بين الحين والآخر في مسكنهما المستأجر في منطقة الكَسرة بالأعظمية.
بعد مضي عدّة أشهر على أحداث 14 تموز، قررت السيدة مائدة الذهاب مع مربية ابنتها أفراحلزيارة رازقية، للتعرف عليها ومعاينتها والاستفسار عن حالتها وحثّها على العودة للمدرسة وتكملة تعليمها…! في البداية كانت رازقية مترددة من استقبال هذه المرأة الغريبة ومتوجّسة منها، في ذلك الوقت المريب والحسّاس بالنسبة لها. لكن مع مرور الأيام تغيّر شعورها نحوها وبدأت تقترب إليها أكثر وتنجذب لعائلتها. هذا الشعور الجديد جعل رازقية تعمل بنصيحة السيدةمائدة وبدأت بإكمال تعليمها العالي في معهد التجارة وواظبت في مسعاها بذلك على مدى سنوات حتى تخرجت فيها بنجاح في نهاية الستينيات ليصار فيما بعد إلى تعيّنها كمحاسبة في وزارة الصحة ودوائرها، واستمرت بعملها الفعلي وبخدمة كاملة لحين بلوغها في بداية التسعينيات سنّ التقاعد، وبعدها توظّفت مرة أخرى وبراتب مستقل في مستشفى العلوية حتى قررت قبل سنوات قليلة الاستراحة من الحياة العملية نهائياً بعد أن دخلت خريف العمر، ولا زالت تتقاضى راتبًا تقاعديًّا مُجزيًا.
الصلة تنامت فيما بينهما، إذ بدأت رازقية، تزور السيدة مائدة وعائلتها باستمرار لديمومة هذه العلاقة الإنسانية المتوطّدة، التي بدأت مطلع الستينيات ولم تنقطع، حتى أن السيدة مائدةحينما كانت تسافر خارج العراق فأنها تطلب منها البقاء في دارها مع الأولاد طيلة وجودها في الخارج ولحين عودتها من السفر.
بعد وفاة جازية، في منتصف التسعينيات التي كانتبالنسبة لرازقيه، بمثابة الأخت التي لم تلدها أمها، فصار لزماً عليها أن تترك ذلك البيت المستأجر باسم جازية وترحل إلى مكان أخر. فاحتضنتها السيدة مائدة وطلبت منها الانتقال إلى بيتها القديم الجديد مع عائلة السيد محمد أنور القيماقݘي.
وبالفعل فقد انتقلت رازقية، إلى مقامها الجديد عام 1996، في بداية رحلة كفاحية جديدة مع عائلة تُجلّها وتعرف سيرتها ومكانتها الاجتماعية، ولها ولهم تاريخ متبادل.
الآن وبعد هذه السنوات الطويلة من الألفة والوصال وبالنظر لطعونها في السن وحاجتها للوقاية أكثر من أي وقت آخر، وأيضا غياب العائلة عن العراق في الصيف فقد أُودعت رازقية،(برعاية الله) كضيفة في إحدى دور الرعاية للمسنّين والكهلة في بغداد، ذات العناية الفائقة والخدمات الصحية المتميّزة، وهي في كامل وعيها وبصحة جيدة وذاكرة نشطة، لحين إياب السيدة مائدة من الخارج لتعود في كنفهم مرة أخرى… فالله خيرُ حافظ وهو أرحم الراحمين.
على مدى سنوات سابقة طُلب من رازقية، سواء من بعض الشخصيات المقرّبة أو من باحثين مهتمّين أو إعلاميين فضوليين، الظهور والتحدّث لهم عن الدقائق المريرة ومحنة اللحظات العصيبة صبيحة 14 تموز 1958، أو عن علاقتها الوطيدة مع العائلة المالكة، أو لكشف أسرار مكمونة لم يُفشيها التاريخ عنهم …! لكنها امتنعت عن ذلك حتى مع أقرب الناس، ورفضت النطق بما يمسّ سيرة عائلة قُتلت بكاملها أمامها وفقدتهم، كان من المفروض أن تُقتل معهم …! غير إنها وفي حدود ضيّقة تُفنّد باستمرار ما قيل من افتراءات وأكاذيب، وطعن وقذف بسيرة وشخصية الأمير عبد الإله، لاعتبارات كونها الأقرب للحقيقة والواقع من كل هؤلاء …!
في كل 14 تموز من كل سنة فأن رازقية، تحرص على ممارسة طقوسها الخاصة في هذه اليوم، التي لا يعرفها أحد سوى إنها تدخل إلى مضجعها وتوصد بابها من الصباح إلى المساء، يُسمع خلالها أنين وتأوه يُدمي القلب.
وبانتهاء سطور هذا السرد المقتضب من الكلام، نكتب السطر الأخير منه لنقول إن رازقية، هذه المرأة الصابرة المكافحة، الحجازية الأصل والعراقية الانتماء، هي الشاهد الحيّ الأخير في المسرحية الأطول لقصر الرحاب والأقرب إلى فصولها وذبائحها. وبغيابها عن مسرح الحياة –والمنيّة حق لا بدَّ منه-سيُسدل الستار على الفصل الأخير من جريمة وقعت فصولها قبل أكثر من ستة عقود من الزمن، سُجّلت ضد (غير مجهول) لكنها غيّرت وإلى الأبد الفصول القادمة من تاريخ العراق، وبعدها لن يجدينا الندم … ولا النزر … ولا الحزن …!
وصدق الشاعر حين قال: رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلما .. صرتُ في غيـره بكيتُ عليهِ